لقد رأى العبد الحبشي بلال بن رباح في الإسلام حلما يفوق حالة الإيمان والعبادة والانتقال من دين إلى دين أو من عبادة الأصنام إلى عبادة خالق واحد، لقد وجده حالة متفردة فوق السائد من الأنظمة الدينية والسياسية في ذلك الوقت عند العرب والفرس والروم، فالإسلام يقدم المرء لذاته وعمله فوق كل اعتبارات أخرى لا يكون له فضل في تحصيلها كالنسب والثروة والمكانة الاجتماعية! لقد أبصر باستشراف المؤمن ما حصل لاحقا فتحمل أشد أنواع العذاب لأن هذا الدين عندما سيتمكن سيمكنه من أن يصبح سيدا يصعد على سطح أعظم وأقدس حرم عند العرب لينصت له الجميع وهو يصدح بأذان الحق، كان دين الإسلام والتمكين له مشروعه الخاص وحلمه الشخصي وإنجازه الذاتي في أن يترك بصمة على صفحات التاريخ في باب الأوائل المتقدمين لا الضعفاء المهمشين المنسيين، بصمة تشهد له عند الله ويشهد له بها من خلفه من الأجيال. (وماذا لنا إن فعلنا ذلك؟) سألها الصحابة في بيعة العقبة يستفسرون عن مكاسب هذه البيعة التي سيبذلون لها أنفسهم وأموالهم وأهلهم فلما علموا أنها الجنة عقدوا عقدا لا رجعة ولا إقالة ولا استقالة فيه، المعرفة كانت ضرورية في الدنيا لأن العمل والتقديم سيكون فيها وهذا الدين نزل ليحيا به الناس حياة طيبة في الأولى يعملون فيها لحياة أطيب في الآخرة، ولذا قيل ألا إن العابد لله ملك في الدنيا ملك في الآخرة، فالإسلام ليس دين قبوريا يعلقك بالزهد في انتظار النهاية إنه يريد لك أن تعيش ملكا بقوانين مالك الملك تسخر ما أعطاك إياه بأعظم قوة وأكبر فائدة، ولكن لم يكن كل الصحابة أبا بكر وعمر ولا العشرة المبشرين بالجنة ولكن كلا منهم وجد له مكانا ومكانة عند رسول الله صل الله عليه و سلم، ووجد له وظيفة في مشر وع الدولة الإسلامية، وبعضهم لا تذكر له السيرة سوى موقف واحد اشتهر به كموقف نعيم بن مسعود في غزوة الخندق في التفريق بين اليهود والمشركين وقومه من غطفان، ولكنه كان الموقف واللبنة التي وضعها في جسم الدولة فاستحق أن يكون من الرواد، و من غاب من الأسماء والشخصيات في الخطوط الخلفية لصناعة الإنجازات والانتصارات أكثر ممن حضروا ووثقت أسماؤهم في كتب التاريخ، فكل جيش كان يصحبه من يداوي الجرحى ومن يطبخ لهم ومن يسن السيوف ومن يدفن الشهداء وو و وكلهم بلا استثناء كانوا جزءا من المشروع أيا كانت مواقعهم في المقدمة أو المؤخرة أو الميمنة أو الميسرة، كلهم كان يحمي ثغرته وكأنه الجندي الوحيد في الجيش وكلهم كان يرى نفسه المدافع الأول عن الدين، وبين أصحاب الأسماء الساطعة المعروفة عند البشر وأصحاب الأعمال الخفية المعروفة عند رب البشر كان هناك أناس كثر ليس لهم كثير عمل ولكنهم كانوا أنصارا بقلوبهم ينتظمون في السياق العام للدولة يصيبون أحيانا ويخطئون أخرى ويخلطون أعمالا صالحة وأخرى سيئة ولكنهم لا يخرجون عن مظلة الإسلام. هذا هو النجاح الذي حققه الإسلام في العصور الأولى في جعل الناس على اختلاف أحوالهم من الالتزام بالدين يرون لهم مكانا ودورا ومواطنة كاملة يكون فيها التقديم للمكين الأمين أكثر من صاحب الدين الضعيف، بل إن هذه السياسة في توسيع قاعدة الأنصار والحلفاء والأتباع تشمل المخالفين أيضا والضمانة أن العدل هو أساس الفصل بين الناس دون أي اعتبارات أخرى بما فيها الدين وهذا ما جعل المسلمين ينصفون النصارى واليهود على أبناء دينهم وما جعل أهل سمرقند يدخلون في الإسلام زرافات ووحدانا بعد أن قضى القاضي المسلم لهم بخروج جيش المسلمين من أرضهم لأنه لم يتبع معهم قوانين الفتح في الإمهال وعرض الجزية، هذا الفهم العميق من كون الإسلام مظلة هو ما جعل عمر بن عبد العزيز يكفل النصارى من كبار السن من بيت مال المسلمين لأن من خدم الدولة في شبابه لن تنساه في كهولته والمحتاج نسد حاجته دون النظر إلى دينه.. إن هذه الفسحة جعلت سيدا كأبي سفيان يقتنع بدخول دين ناصبه العداء طوال عمره ولكنه أدرك أن هذا الدين لن ينتقص من قدره وأنه سيظل سيدا في الإسلام كما كان في الجاهلية وأفضل ويظل بيته مشرفا له الاحترام والمكانة ومن دخله كان آمنا. إن هذه السعة في الاستيعاب هي ما جعلت داهية كعمرو بن العاص يدرك أنه بالإسلام سيجد فرصة أكبر وأعظم وأنفع ليسطع ذكاؤه وكانت إضافته بفتح مصرا نصرا للأمة في وقتها وكل وقت إلى قيام الساعة. إن هذا التسامح هو ما جعل فنانا شاعرا ككعب بن زهير لا يترك الغزل حتى في حضرة رسول الله ويشكو بين سعاد ثم يتعالى بالقصيدة ليدرك أن الحب أشكال وأنواع أعظمه ما كان لله ورسوله فيقول مادحا مستعطفا: إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول فيقره رسول الله ويصفح عن هفوات الماضي بل ويخلع عليه بردته قبولا له ولما يمثله. جمع الإسلام في سيرته الأولى ما بين المقربين الشهود وآخر رجل يدخل الجنة وحتى الموقوفين على الأعراف وعدهم بالرحمة فما بال القائمين بالدعوة إلى الإسلام يضيقون الواسع ويوغلون بغلظة ويصنفون الناس بالمسيمات المختلفة ويحكمون على التزامهم ودينهم، وهو أمر لا يعلمه إلا الله وما لنا سوى الظاهر، فيدخلونهم ويخرجونهم من باحة الإسلام وكأنهم يملكون المفاتيح إلى الجنة أو صكوك الغفران أو الخسران؟! عندما يشعر الناس أنهم شركاء أصيلون في رسالة الإسلام ولو بموطىء قدم عندها بإذن الله سيكون التمكين لهذا الدين في الأرض. صك ملكية الإسلام صك رباني كتبه الله لجميع عباده المؤمنين، وما نحن إلا شهداء على الناس أفضلنا من أطمع الناس بفضل الله ولم يقنطهم من رحمته. عن موقع الإسلام اليوم -بتصرف-