بقلم: ياسر الزعاترة منذ قرار شارون الانسحاب من قطاع غزة عام 2003، ونحن نكتب عن الحل الانتقالي بعيد المدى الذي اخترعه شارون نفسه قبل ثلاث سنوات من ذلك التاريخ، وقبل أن يتسلم الحكومة لاحقا. وخلاصة ذلك الطرح الذي بلوره بعد فشل قمة كامب ديفد صيف العام 2000، هو أن التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين يشمل قضايا ما يسمى الوضع النهائي سيكون مستحيلا، وهم لن يقبلوا بالأطروحات الإسرائيلية، والحل تبعا لذلك هو استدراجهم إلى اتفاق انتقالي لن يلبث أن يتحول إلى دائم (ربما مع تعديلات طفيفة) في ظل استحالة العودة إلى الوراء، بعد أن تكون الدولة قد اكتملت من الناحية العملية. على خلفية برنامجه (الحل الانتقالي)، انسحب شارون من قطاع غزة الذي ينبغي أن ينضم إلى الحل الانتقالي (أوسلو كان اسمه الأول هو اتفاق غزة-أريحا)، وكان يريد نقل التجربة إلى الضفة الغربية بالتدريج (قبل أن يعاجله الموت الدماغي). ولهذا الغرض اغتال شارون قادة حماس الكبار (الشيخ ياسين والرنتيسي)، ثم أتبعهم بياسر عرفات، وهيّأ الأجواء لنقل السلطة إلى أناس لن يكون لديهم مانع في المضي في هذا البرنامج ما داموا يرون الحفاظ على سلطة أوسلو، ويرفضون الكفاح المسلح، بل والانتفاضة الشعبية الشاملة أيضا. من يعتقد أن مشروع (الحل الانتقالي) قد توقف بعد اغتيال ياسر عرفات فهو واهم، فقد كان ينضج بالتدريج بعد أن أصبح موضع إجماع في الساحة السياسية الإسرائيلية، وذلك عبر إعادة الوضع تدريجيا إلى ما كان عليه قبل انتفاضة الأقصى نهاية سبتمبر 2000. كانت مسيرته تنضج بوضوح أمنيًّا عبر مشروع دايتون و(الفلسطيني الجديد)، واقتصاديًّا عبر مشروع بلير الذي شغل الناس بالمال والأعمال، وورّط كبار رموز السلطة في هذا المضمار حتى أصبح بعضهم ومن يرتبطون بهم يملكون عشرات الملايين، بعد أن كانوا مجرد موظفين حين رحل ياسر عرفات. نعم، كان المشروع ينضج بالتدريج في السياق المشار إليه، مع وضع السلطة ومنظمة التحرير وفتح تحت إمرة تلك القيادة، إلى جانب توريط حماس في دخول الانتخابات ومن ثم حشرها في قطاع غزة، وتكريس حالة العداء بينها وبين حركة فتح، ودفع الأخيرة إلى حضن عباس بالكامل دون اعتراض على خطه السياسي. اليوم، تبلغ مسيرة (الحل الانتقالي) نهاياتها، وهي توشك أن تعلن عن نفسها بشكل واضح، بدون أن يعني ذلك أنها ستنتهي أثناء شهر أو شهور قليلة، لاسيما أن قادة السلطة ما زالوا يصرخون ليل نهار بأنهم لن يقبلوا الحل المؤقت، وأنهم مصرون على حل نهائي، لكنهم لن يجدوا بدا مما ليس منه بد، في ظل ضغط أميركي كبير، وفي ظل مخاوف يشتركون فيها مع الأميركيين وقادة الاحتلال تتعلق بانتفاضة جديدة في الضفة الغربية يمكن أن تنسف -وأقله تهدد- كل ما (بنوه) أثناء السنوات العشر الماضية. ولا ننسى أن مشروع الحصول على دولة بعضوية مراقب في الأممالمتحدة لم يكن سوى جزء لا يتجزأ من هذا المشروع الذي سينتهي دون شك بعضوية كاملة، والنتيجة هي أن دولة الجدار الأمني مستباحة السيادة ستغدو في حالة نزاع حدودي مع جارتها لا أكثر ولا أقل. نستعيد ذلك كله بين يدي الجولات المتوالية لوزير الخارجية الأميركي جون كيري في المنطقة، وبين يدي مشروعه الأخير الذي يركز على البعد الأمني في الصراع، بدون أن يطرح أية أسئلة تتعلق بالقضايا الكبرى التي تعيق المفاوضات، وفي مقدمتها القدس التي أفشلت قمة كامب ديفد 2000، وليس من بينها قضية اللاجئين التي استسلم قادة السلطة لنسخها من مطالبهم، وإن واصلوا الحديث عنها بين حين وآخر. يعلم كيري أن نتنياهو لن يعرض على عباس ما سبق أن عرضه باراك وكلينتون على السلطة في كامب ديفد، ما يجعل الحديث عن اتفاق نهائي عبثيا إلى حد كبير، في حين يعلم أن انفجار انتفاضة في الضفة الغربية لن يهدد الأمن الإسرائيلي وحسب، بل سينسف الكثير من الجهد الذي بذله وإدارته مع إيران، وربما في سوريا لاحقا. والنتيجة أنه لا بد من الاتفاق المرحلي بأي ثمن، وأقله الحديث المتواصل عنه إلى حين نضجه تماما، وبالطبع حتى يستمر تسويق الوهم على الشعب الفلسطيني بأن هناك ما ينتظره في زمن ما. من هنا بدأ كيري بطرح القضايا الأمنية، وتجاوز القضايا السياسية الكبرى، وهنا أيضا وجد نفسه في صدام مع مطالب إسرائيل، رغم مجاملته السافرة لها. لكن النتيجة أن تمرير هذا الوضع على الطرفين لا يبدو مستحيلا، مع تغيير في التفاصيل التي لا تخرج عن تكريس الدولة المؤقتة في حدود الجدار مع بقاء السيطرة الإسرائيلية على الغور (والمعبر بالضرورة)، ووجود محطات إنذار مبكر في الضفة، وسيطرة على الأجواء أيضا. في هذه الأثناء تحدث أوباما عن (اتفاق إطار) يتطرق إلى قضايا الوضع النهائي كقضايا مؤجلة، حتى يكون بوسع قيادة السلطة أن تقول للناس إنها لم تتنازل عن (الثوابت)، بينما هي تفعل ذلك دون أدنى شك، وهي في النهاية ستقبل بالمؤقت، لأنه لا بديل أمامها في حال الرفض غير الانتفاضة التي ترفضها بشكل حاسم. وحين توقّع السلطة مع الكيان الصهيوني والأردن على اتفاق مائي طويل المدى يربط بين البحر الأحمر والبحر الميت، فهذا يعني أنها تسحب من عقلها أي صدام مقبل مع الطرف الإسرائيلي. وفي السياق، نقل عن وزير المياه في السلطة عبارة بالغة الأهمية تعكس هذا البعد، حين قال عن الاتفاق الثلاثي (أظهرنا أننا نستطيع العمل معا رغم مشاكلنا السياسية)، والنتيجة أنها مجرد مشاكل لا أكثر، والمشاكل تسوى بين الدول عبر الأطر التفاوضية، لاسيما أن الدولة المؤقتة لن تلبث أن تحصل على عضوية كاملة في الأممالمتحدة. هنا تتبدى الخطورة الكبيرة التي تنطوي عليها المفاوضات القائمة حاليا برعاية أميركية، والتي تهدد مستقبل القضية برمتها، ما يفرض على شرفاء الساحة الفلسطينية أن يتوحدوا ضمن إطار جبهة تواجه هذا العبث، وتقلب الطاولة في وجهه، وأعني هنا الجميع في الداخل والخارج، الأمر الذي يمكن أن يستقطب لاحقا شرفاء في حركة فتح ممن يمكن أن يتمردوا على منطق القبيلة، ويخرجوا من أسر المناكفة والعداء لحركة حماس. ما يجري بالغ الخطورة ويهدد بتصفية القضية برمتها، وإذا لم يتوحد جميع الشرفاء فلسطينيا، بل وعربيا، فإن ثمة أجواء في المنطقة تساعد على تمرير مشروع من هذا النوع، وهي أجواء لولاها لما كان بالإمكان توقيع الاتفاق المائي الثلاثي المشار إليه دون اعتراض من أحد، فضلا عن الانشغال بالحديث عن الأبعاد الأمنية، ونتنياهو يصرخ ليل نهار بأن القدس الموحدة هي عاصمة الدولة الإسرائيلية، بينما يتذكر الجميع وثائق التفاوض الشهير وما انطوت عليها من تنازلات في القضايا الحساسة لم تشبع شهية الصهاينة (المعتدلين)، فضلا عن أن تشبع شهية المتطرفين من أمثال نتنياهو وليبرمان. بقي القول، إن الأمل معقود على الشعب الفلسطيني الأبي الذي عودنا على اجتراح المعجزات، ذلك أن تفجير انتفاضة شعبية تواجه العبث الجاري، ومن ضمن ذلك التهويد والاستيطان في الضفة والقدس، سيشكل المواجهة الكبرى والأكثر فعالية لمشروع تصفية القضية الذي يُطبخ حاليا.