يؤرخ البوسني أدين كريهيتش في روايته (سراييفو قصة حصار وحب) يوميات الحرب التي شهدتها البوسنة والهرسك في مطلع التسعينات من القرن المنصرم. يكتب روايته كمن يدوّن مذكرات المحاصرين والمقاتلين والشهداء بتفاصيلها، وكأنه بصدد التحضير لسيناريو فيلم عن تلك الحرب المأساوية. لا يخلو سرد كريهيتش في روايته -نشرتها مؤخرا دار مدارك في دبي بترجمة عبد الرحيم ياقدي- من تشويق درامي، برغم الأسى المتخلل معظم الفصول والمقاطع، إذ يبدأ من نهاية الحرب، حيث يلتقي بطل الرواية (ياسمين) بحبيبته (ليلى). يسرد جانبا من أحلام الوصال ومعاناة السنين الماضية، ثم يوقف المشهد قبل إتمام اللقاء، ويرجع بالسرد إلى الوراء ليحكي وقائع الحصار والحرب. يصف كريهيتش -وهو إعلامي مقيم في قطر- شراسة الحصار وضراوة القصف العشوائي وتخبطه، وكيف هرب الناس من المدينة، من القنابل والقناصين والجوع والبرد، ثم كيف باع منتفعو الحرب ما تبقى من الأشياء الثمينة من البيوت بأسعار زهيدة، وكان المسعى الدؤوب لرشوة الجنود الذين كانوا يؤمِنون النفق تحت مدرج المطار للخروج من المدينة. يشير كريهيتش إلى عادات جديدة تجتاح حياة الناس أثناء الحرب والحصار، وفي ظل فقدان الأمان، إذ يصبح الموت عادة، تجعله الحياة اليومية صلبا كالحجر، في أي لحظة يكون المرء مرشحا ليكون القتيل التالي. ويسود يقين واقعي أن القذائف ستسقط، لكن السؤال هو هل ستكون أنت في مكان يجب ألا تكون فيه في تلك اللحظة، حيث لا توجد قواعد للعبة. الكل يُقتلون. ويذكر أن الموت لاقى الكثيرين وهم نيام حيث ينعتون تاليا بالمحظوظين، أنهم لم يتعذّبوا في موتهم. بطل الرواية (ياسمين)، شاب بوسني مسلم في العشرينات من عمره، وجد نفسه مضطرا للتطوع في جيش بلاده لمحاربة العدوان الصربي، أصبح أحد أعضاء فرقة للنخبة في الجيش، قضى أوقاتا طويلة على الجبهة وخاض أشرس المعارك ضد قوّات الجيش الصربيّ الأكثر تسليحا وعتادا. خطيبته ليلى تعمل في أحد معسكرات قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتّحدة، تتعرض لتحرّشات بعض ضبّاط القوات الدولية، لكنها تقاوم مغرياتهم في أحلك أوقات الجوع والحرمان التي تعرّض لها أبناء بلدها، تظل تفكر بخطيبها ياسمين وتنتظره وتدعو له. تمر علاقتهما بمنعطفات وتوترات، تمليها الوقائع والظروف، فياسمين يرفض أن تشتغل حبيبته مع القوات الدولية، لكنه لا يستطيع تقديم البدائل لها ولأسرتها، يكتوي بنيران حبه بما لا يقل عن نيران الحرب التي يخوضها. شخصيات كثيرة تصورها الرواية، لكل واحدة حكاية مختلفة، كما أن لكل مقاتل أسبابه التي اضطرته لحمل السلاح والدخول في القتال. ويأتي القناص كأحد الشخصيات المحركة للأحداث بعيدا عن الواجهة، يجبر بفعله القاتل على تصرفات بعينها، يكرس عادات جديدة، يختار ضحيته بدم بارد، ويقتل من قد يغيث الجريح أيضا. القتل حرفته وعادته، حيث إن (الصدفة) هي التي ترسم مصائر الناس تحت القصف والقنص. يصف الروائي كذلك حالة الذعر التي تتلبس الناس، وكيف تنقلب معايير التحية والتلاقي والتوادع، وتكون رؤية الآخر حيا بعد كل لقاء موضع شك وقلق دائمين. ثم كيف يتعود الإنسان أن يكون في خطر مميت. ويتأسف لوصف حالة أهالي سراييفو الذين كانوا يعيشون وكأنهم في القرون الوسطى، بينما كان العالم يتهيأ لدخول القرن الواحد والعشرين. يحاول الكاتب أن يغطي سنوات الحرب في البوسنة والهرسك بين عامي 1992 _ 1995 وكيف غيرت تلك الحرب المنطقة والناس، وزرعت كثيرا من الألغام المستقبلية، بحيث يظل الوضع على حافّة الانفجار. يحضر جانب من الالتزام ب(قواعد) الحرب، من خلال إشارة الروائي إلى حرص قائد مجموعة النخبة على تعليم عناصره فنون الحرب والقتال، مع التنويه الدائم إلى ضرورة تجنب الكره الذي يكون أكثر إيذاء من الحرب نفسها، إذ أن الحرب قد تنتهي يوما ما، لكن الكره حين يتأصل في النفس فإنه يصعب التخلص منه أو القضاء عليه. وبالنسبة لياسمين فإن ثلاث سنوات من الحرب لم تكن كافية لكي تقتل روحه الحالمة، لكنها كانت كافية لتعلمه وجود الحياة الحقيقية، التي لا يكون الشخص فيها دائما كما يحبّ. لا يغفل كريهيتش عن توصيف التغيير الاجتماعي والاقتصادي، عبر الإشارة إلى أثرياء الحرب وأمرائها الذين يساهمون في التضييق على الناس، وابتزاز الآخرين، واستغلال وضعهم وجوعهم، ثمّ حالات من غدر الجار والصديق، وانهيار منظومة التقاليد والأعراف الاجتماعية وتنامي طقوس جديدة وعادات غريبة تفرضها ظروف الحصار والحرب. فضلا عن انكسار العزائم ومتاجرة الساسة بمآسي الناس، وعقدهم الصفقات على حساب جوعهم وبؤسهم. يحكي الكاتب كيف أن (المصادفة) تلعب دورا لافتا في توجيه الحياة في ظل القصف المتواصل، فكل المِيتات تختارها (المصادفة) في ذاك الواقع. فبينما كان الموت يحيق بياسمين في كل مكان ينتقل إليه، كان ينجو بطريقة عجيبة، وحين تكون الحرب مقتربة من نهايتها، بعد أن يفقد أصدقاءه، يكون على موعد مع حبيبته ويتعجل لقاءها، تسقط إحدى القذائف قربه، تحفر في الأرض، تصيبه شظاياها في مقتل. يحصده الموت وليلاه، وهما على أعتاب الانتقال لحياة جديدة، وهما في برزخ الحلم الفاصل بين جحيم الحرب ومعبر السلام. يموت الأبطال وتبقى الحرب مستمرة. يبرز كريهيتش من خلال سرده لمآسي البوسنيين تقاعس المجتمع الدولي عن أداء واجباته الإنسانية، ويؤكد حقيقة عدم الرهان على التدخل الدولي، وأن المساعدات التي تقدم تحت بند (الإنسانية) تكون ذرا للرماد في العيون، واختباء للقوى العالمية خلف أقنعة الدواء والغذاء، والتحايل على الوجع الحقيقي وتقديم ما يبقي المأساة متعاظمة، لا العمل للحيلولة دون استمرارها. برغم كل الظروف البائسة في الحصار يوصي الروائي على ألسنة شخصياته بوجوب التشبث بالأمل، لأن الأمل يساهم في إبقاء المرء متماسكا، وتكون العبرة في الحكمة القائلة: إن الأمل آخر مَن يموت.