بقلم: باسم يوسف في يوم 16 أفريل 2013 كتبت في هذا المكان مقالا بعنوان (قطعة البازل الناقصة). في هذا المقال تكلمت عن النظرة الضيقة التي ينظر بها أتباع الإسلام السياسي إلى العالم وكيف يسوقون لك أمثلة ناقصة من الغرب ليبرروا منطقهم المغلوط ومفهومهم المنقوص عن الحرية والديمقراطية. وضربت أمثلة كثيرة عن ذلك منها هذه المعلومة المغرضة التي تقول إن عددا من دول العالم يذكر دين الدولة في الدستور. إذن فلا بأس من صبغ الدستور المصري بصبغة دينية. ولكنه يتجاهل حقيقة أن هذه الدول لا تستخدم هذه المواد لفرض تشريعات ذات قدسية دينية ولا ينتهكون حقوق الأقليات بحجة شريعة دينية وأن الحكم أولا وأخيرا في هذه الدول هو حكم علماني صريح. أتذكر كيف احتفى بهذا المقال من يطلقون على أنفسهم ليبراليون. بل اتصل بعضهم ليهنئوني شخصيا. اليوم نفس مدعي التنوير والليبرالية يضعون أنفسهم مكان الإسلاميين ويستمتعون بالنظر من خلال نفس العدسة الضيقة. اليوم نرى من يسوق إلينا منطقا منقوصا عن تداول السلطة والديمقراطية، مثل هذه الكاتبة المثقفة التي ظهرت في أحد البرامج التليفزيونية لتهاجم من يعترض على ترشح وزير الدفاع للرئاسة فتستخدم نموذجا تراه هو الأصلح للاتباع وهو نموذج إسرائيل!! فتقول هذه الكاتبة المفكرة المثقفة: (أنا مش فاهمة اللي زعلانين من ترشح المشير السيسي للرياسة. ماتبصوا لإسرائيل! فكل رؤساء ووزراء إسرائيل عسكريون خدموا في جيش الدفاع وارتقوا في مناصبه ورشحوا أنفسهم لرئاسة الوزراء). ثم تضيف: (احنا بقى عايزين ديمقراطية زي إسرائيل). لا برافو! لكن وماله، فلنحاول تطبيق هذا النموذج الديمقراطي الرائع التي تنادي به هذه الكاتبة المثقفة. ولكن بشرط أن نأخذ النموذج بالكامل بدون زيادة أو نقصان حتى نحقق لكاتبتنا المثقفة حلمها بالديمقراطية الإسرائيلية. مبدئيا المجتمع الإسرائيلي مجتمع معسكر بالكامل. فليس هناك أي عذر يعفيك من أداء الخدمة العسكرية. في سن 18 عاما كل الذكور والإناث (أكرر: الإناث) مطالبون بأداء الخدمة العسكرية ولمدة ثلاث سنوات حتى وإن كان يعيش بالخارج وإلا وقع تحت طائلة القانون. ولذلك فلا يمكن فعليا وصول أي مواطن إلى مناصب السلطة أو حتى يحيا حياة طبيعية إلا لو قام بتأدية الخدمة العسكرية. وبعد أداء الخدمة العسكرية يظل المجتمع بالكامل على قوة الاحتياط وتحت رحمة التعبئة العسكرية في أي وقت. العرب بصفة عامة لا يدخلون الجيش، كما أن بعض الجماعات الدينية مثل طائفة (الهاريدي) و(الناتوري كارتا) لا يدخلون الجيش لأسباب دينية. إذن لنبحث عن أقلية لنعفيها من أداء الخدمة ولنتفق على عدم دخول المتدينين إلى الجيش المصري. إيه رأى حضرتك لغاية دلوقتي؟ مبسوطة؟ أيضا يعطي الجيش الإسرائيلي مميزات متعددة لمن ينهون الخدمة العسكرية، منها مثلا أربعة آلاف دولار سنويا لمدة أربع سنوات للمساعدة في المصاريف الجامعية، كما يعطي دعما ماديا وعينيا في مجالات الإسكان وكوبونات للطعام وقروضا ميسرة سواء قروضا شخصية أو لبدء مشروعك الخاص، بل وتعطي إحدى شركات المحمول خصما للمكالمات والرسائل القصيرة لمن أدى الخدمة العسكرية. إذن يا سيادة المثقفة المتنورة لنفعل ذلك هنا. لن أخوض طبعا في ممارسات وانتهاكات الجيش الإسرائيلي التي تريد مثقفتنا العزيزة أن نمتثل لمصيره فهذا وحده يحتاج لمجلدات. ولكنني أريد أن أمد الخط على استقامته لنتتبع مصير قادة إسرائيل الذين أنهوا خدماتهم العسكرية ثم أصبحوا زعماء ورؤساء للوزراء. فهذا هو لب النقاش مع صديقتنا المثقفة. فلم نر عزيزتي المفكرة وزيرا لدفاع إسرائيل (هذا النموذج الذي قمت باختياره) يرشح نفسه (من الباب للطاق) لرئاسة الوزراء. فمثلا بنيامين نتنياهو الذي أنهى خدمته مع حرب 73 سافر إلى أمريكا ليدرس الهندسة المعمارية في معهد ام أي تي، ثم درس الإدارة في هارفارد، وفين وفين لما رجع لإسرائيل لينخرط في الحياة الحزبية ويتنافس على رئاسة الحزب ويخسر مرة ويفوز مرة لينال هذا المنصب منتصف التسعينيات ثم يخسره ثم يفوز به مرة أخرى حتى أصبح رئيس الوزراء الحالي. في إسرائيل يكون منصب الوزير منصبا سياسيا فنرى وزير الخارجية يتحول لوزير دفاع ثم يصبح وزير بنية تحتية. وكل ذلك في ظل منافسة شرسة داخل حزبه أو مع الأحزاب الأخرى المنافسة. ولكن أن تأتي أنت اليوم وتأخذ قطعة صغيرة من البازل ونقول إن من حكم إسرائيل هم رجال عسكريون، فإن لم يكن هذا جهلا فهو تدليس على العامة. مثال آخر حين صرحت برفضي لخلع المشير السيسي لبدلته العسكرية وترشيح نفسه للرئاسة وقلت للذين يستخدمون مثال ايزنهاور، إن ايزنهاور وغيره لم يتركوا المنصب العسكري ليترشحوا في الحال ولكنهم مروا بعملية طويلة ومعقدة للترشح. خرج المذيع الليبرالي الذي اشتهر بالتحريض على اللاجئين السوريين ليقول وبكل ثقة (إنه من الضحالة أن أضرب هذا المثل لأنني أعتمد على نقطة واحدة وهي المدة الزمنية التي تفصل بين تنازله عن منصبه وترشحه للرئاسة). ولذلك، وفي محاولة مني للوصول إلى الفكر العميق لهذا المذيع المثقف برضه، فيمكنني أن أقول له إن الموضوع ليس مجرد فاصل زمني. فأيزنهاور، وغيره من الرؤساء والمرشحين مثل جروج دبليو بوش أو جون ماكين (الذي خسر أمام أوباما) لم يضموا في أوراق اعتمادهم ميزة أنهم عسكريون حاليون في الخدمة. ولكنهم يضعون خدمتهم العسكرية كميزة تدل على أداء الخدمة الجليلة للدفاع عن الوطن. وحين انخرط ماكين أو ايزنهاور أو بوش في الصراع السياسي الحزبي، لم يخوضوا هذا الصراع كعسكريين بل كمدنيين ترقوا في المناصب الحزبية ومناصب أخرى كحاكم ولاية تكساس مثلا. ولم يأت أحد منهم كوزير دفاع متنافسا مع أقرانه المدنيين. لذلك فهناك عشرات الاختلافات بين حالنا وحالهم وإن لم تر الأمور من خلال العدسة المفتوحة على اتساعها فهذه هي الضحالة بعينها. نقطة أخيرة للكاتبة المثقفة والمذيع العميق. إذا أردتم فعلا تطبيق الأمثلة التي تتعلق بالجيش في إسرائيل وأمريكا إذن (فكملوا جميلكم) وطالبوا بإخضاع ميزانية الجيش وأنشطته الاقتصادية غير العسكرية للتدقيق والمراجعة عن طريق الشعب. ولا الموضوع ضرب أمثلة على الفاضي وخلاص؟ مثال آخر لأخذ جزء صغير من البازل والترويج له على أنه الصورة الكاملة هو هذا المذيع الصحفي الكبير الثوري المناضل الذي طالما انتقد جنرالات مبارك والمجلس العسكري وطالما دافع عن النشطاء والمنظمات الحقوقية قبل أن يفقد ذاكرته ويغير آراءه (عن اقتناع طبعا). خرج علينا هذا المذيع ليبدى تعجبه من السخرية ممن يضعون صور السيسي على كل شيء من أول التيشيرتات إلى السلاسل إلى كل شيء آخر في حياتنا. وكالعادة ضرب لنا مثلا بأوباما وأمريكا وكيف أنهم يضعون صور أوباما على الفناجين والتيشيرتات ولا يشتكي أحد هناك ولا يخرج أحد في أمريكا ويقول إن هذا فرعنة أو تأليه لأوباما. لأ، لعيب! عندك حق. لكن نسي هذا المذيع العملاق أن يقول لنا إن نفس هذا الأوباما يسخر منه مقدمون البرامج بشكل يومي، ويتم الهجوم عليه بشراسة وبعنف وهناك لا يخرج أحد ويجرؤ على اتهامك أنك ضد الجيش الأمريكي أو أنك خاين وعميل، وتريد هدم الثوابت إلى باقي الكلام المحفوظ. طبعا ستقول لي أوباما رئيس والسيسي لسه. حلو، يبقى كان أجدر بالمذيع العملاق ألا يستخدم هذا المثال من الأساس. وكمان لو مش رئيس النهارده، حنروح منه فين؟؟ نقطة أخرى وهي موضوع (أنه ليس هناك بديل للسيسي). الحقيقة أنا مع هذه النقطة قلبا وقالبا. نعم ليس هناك بديل للمشير السيسي إذا نظرنا له على أنه ممثل واحد وأوحد للجيش. ليس هناك بديل للسيسي إذا وضعنا الجيش في كفة والعملية السياسية في كفة أخرى. ففي أي دولة في العالم ليس هناك بديل لوزارة الدفاع أو الجيش ولا يمكن الاستغناء عنهم ولا يمكن منافستهم. ولكن في كل الأمثلة التي يصدعون بها أدمغتنا من العالم الغربي، لا يدخل وزير الدفاع الانتخابات على أساس أنه يا إما الجيش يا إما بلاش. وكأننا إذا انتخبنا أحدا آخر غير المشير السيسي سيحزم الجيش أسلحته ومتاعه ويهاجر إلى بلد آخر ويتركنا بدون وزارة دفاع. وكأن كل إمكانيات الجيش ستكون مسخرة لخدمة البلد فقط في حالة وصول وزير الدفاع إلى الحكم. أما إذا جاء رئيس آخر (فمالوش فيها). تريدون أن تضعوا رجلا عسكريا لرئاسة الجمهورية؟ تريدون أن تحكموا فعلا إن لم يكن له بديل؟ إذن فطبقوا قواعد الحكم التي تقتبسون جزءا صغيرا منها لتدلسوا على الشعب ودعوا هذا المرشح أو ذاك يخوض الانتخابات بدون رعاية المؤسسة العسكرية التي في أي دولة محترمة في العالم لا تتدخل في شؤون السياسة. حتى في معسكرات الجيش المصري فإن السياسة والدين من التابوهات المحرم الكلام عنها. فالأجدر بكم احترام القواعد التي وضعها الجيش لنفسه ولا تزايدوا عليها. المؤسف أن من اتخذوا النفاق لوزير الدفاع كجزء من شعائرهم اليومية تحت مسمى الوطنية وحب الجيش واحترام الثوابت والرموز العسكرية، هم نفسهم من يشنون هجوما بشعا على سامي عنان رئيس الأركان السابق الذي لم يعد يتمتع بحماية المنصب العسكري. الموضوع ليس شخص الفريق السيسي ولكن طريقة ممنهجة لإقحام الجيش في الحياة السياسية ووضع المؤسسة العسكرية كمنافس صريح في العملية الانتخابية وهو ما حذر منه المشير السيسي نفسه العام الماضي. لذلك إذا أردتموها دولة عسكرية صراحة قولوا هذا. إذا أردتم حكما عسكريا وفوقه جاكتة وكرافتة كونوا صرحاء معنا. ولكن سموا الأمور بأسمائها. لا هي ديمقراطية ولا هو حكم مدني، وأكيد أكيد دول العالم المتقدم لا تفعل ذلك. فتوقفوا عن بيع الوهم والكذب للناس بمعلوماتكم المنقوصة (عمدا). فالشباب اليوم منفتح على العالم وهناك شيء اسمه الأنترنت يستطيع كشف كذبكم وضحالتكم. تستطيعون أن تستمروا في تقديم برامج تروج لبروباجندا عفا عليها الزمن، وتملأون ساعات طويلة من الهواء لا يشاهدها غير دائرتكم الضيقة من عواجيز الفرح. ولكنكم تتناسون أن أكثر من 65 بالمائة من السكان هم شباب تحت الثلاثين عاما. شباب بطبعه متمرد وحانق و(ماعدش ياكل من الأونطة). أنتم جيل خارج الزمن، خارج التاريخ والجغرافيا. أنتم نتاج نفس الأبواق الإعلامية التي كرست لحكم الديكتاتور على مدى ستين عاما. ربما تضحكون على الناس اليوم كما فعل أساتذتكم في الستينيات. ولكن ذلك لن يستمر. فالجهل يمكن أن يفوز في البداية نتيجة الخوف والهيستيريا. ولكنه لا يمكن أن يقود أمة ولا أن يكسب شبابها. أنتم إلى زوال.