أنهت الدولة المصرية بنجاح الأسبوع الماضي استفتاء على الدستور الجديد لمصر، وقد كان استفتاء حاشدا؛ فبحسب آخر الإحصائيات التي خرجت أول من أمس (الجمعة) قبل الإعلان الرسمي أمس، كانت نسبة المشاركة قرابة 50 في المائة وحصل الدستور على موافقة شعبية تجاوزت 90 في المائة. إن هذه الأرقام تحمل دلالات مهمة؛ أولاها: الشوق العارم لدى عامة الشعب المصري للعودة لزمن الاستقرار والأمن بدلا من الأصولية والفوضى. والثانية: تصويت غير مباشر لتأييد خارطة المستقبل أو الطريق التي يعد الاستفتاء على الدستور أولى خطواتها التي يشارك فيها الشعب. والثالثة: دعم قوي لقائد هذه الخارطة وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي الذي يرغب غالبية المصريين إليه أن يترشح لرئاسة الجمهورية وقيادة دفة البلاد. الرابعة: رفض حاسم لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية بحكم القانون ورفض لكل ممارساتها التخريبية. مصر عريقة في الدساتير منذ محمد علي إلى اليوم، فهي من أوائل إن لم تكن الأولى على الإطلاق في صياغة الدساتير واعتمادها وتطويرها من بين الدول العربية الحديثة، ولقد قامت الكثير من الدول العربية باقتباس الدستور المصري، وكان رائد ذلك هو عبد الرزاق السنهوري الذي قاد وشارك في صياغة الكثير من دساتير الدول العربية الحديثة. من هو الرئيس القادم لمصر؟ يشهد هذا الموضوع زخما كبيرا سيزيد بعد إقرار الدستور، والمرشح الأوفر حظا هو السيسي فيما لو قرر التخلي عن بدلته العسكرية وترشح كمدني، فكثير من الأحزاب والرموز الدينية والنخب السياسية وغالبية الشعب المصري تدعم هذا التوجه باعتباره منقذ مصر من براثن جماعة الإخوان وسلطتها الفاشلة وراسم خارطة المستقبل والأمين على إتمامها، من دون أن يمنع ذلك من طموحات بعض الشخصيات التي تمثل بقايا لجماعة الإخوان كحزب مصر القوية أو بعض القوميين واليسار أو المستقلين. يشير لهذا التوجه الداعم لترشح السيسي، عمرو موسى في حوار نشر الجمعة في ”الشرق الأوسط” بقوله: ”أنا أرى أن الفريق السيسي يتجه لاتخاذ هذا القرار (الترشح)، وأرجح هذا”. وهو ما عبر عنه بشكل أو بآخر بعض المرشحين المحتملين الذين يربطون دائما رغبتهم في الترشح فيما إذا لم يترشح السيسي. هل يجب أن يترشح السيسي كما هي الرغبة العارمة في مصر اليوم أم ينبغي أن يبقى في منصبه؟ في الإجابة عن هذا السؤال كتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد مقالة أثارت جدلا تستحقه بعنوان ”السيسي ومغامرة الترشح”، وهو رأى أن ترشح السيسي يعد خطأ، وقال: ”أما لماذا السيسي يخطئ فالسبب أنه أهم من أن يكون رئيسا للجمهورية، موقعه ودوره أن يكون ضابط الإيقاع السياسي، وحارس الدستور الجديد، وحامي النظام. أما عندما ينزل إلى المنصب التنفيذي يصبح جزءا من المشكلة، ولن يكون هناك من يرعى الانتقال التاريخي ويدافع عنه”. رغم كل الزخم الداخلي الداعم لترشح السيسي فإن ما طرحه الراشد ينبغي أن يثير جدلا مستحقا، فأمام السيسي خياران؛ الأول: أن يكتفي بوزارة الدفاع وقيادة الجيش ولا يترشح للرئاسة كما هو اقتراح الراشد. ويبقى في هذه الحالة حاميا لمستقبل مصر واستقرارها وأمنها. وهو ما قد يدفعه لدعم مرشح آخر يرتضيه، وأيا كان ذلك المرشح فسيقرأ المصريون ذلك على أنه ”رئيس استبن” أو بديل كما كان الحال في زمن الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي، وقد تحدث المصريون عن هذا الخيار وعبروا عن رفضه بأكثر من طريقة. الثاني: أن يضع في مكانه الحالي أحد رجاله الأمناء أو يخلق حالة من التوازن يضمن بها دعم الجيش ويرشح نفسه، ويصبح رئيسا لمصر في مرحلة مضطربة، وهو هنا سيواجه قوة الفوضى واستقرارها ونموها وتطورها الطبيعي. في كل من الخيارين مغامرة من نوع ما، وسيكون على السيسي نفسه أن يحدد ما يريده لنفسه ولبلاده، مع مراعاة أن السيسي قد أصبح يمثل رمزا للخلاص لدى غالبية الأطياف والتيارات من الشعب المصري. إنه يمثل ذلك النوع من القادة الذين يأتون بعد الثورات أو الاضطرابات الكبرى ويمتلكون كل أدوات القيادة، مع كاريزما شخصية وتاريخ مشرف، يمنحهم مشروعية لا تقتصر على مشروعية صناديق الاقتراع، ما يجعلهم قادرين على اتخاذ أصعب القرارات وحتى غير الشعبي منها. إنه يشبه ولا يطابق حالة كحالة نابليون فرنسا. سيثير ترشحه وفوزه بالرئاسة جدلا حول عودة العسكر للحكم من جديد بمصر، وستتبنى هذه الرؤية جماعة الإخوان المسلمين وداعموها الإقليميون، وسيؤيدها بعض التيارات الشبابية المتحمسة في الداخل، وسيرفعونها شعارا للحشد والتظاهر بعد كل قرار لا يرضيهم، وحين يكون منشغلا بأي استراتيجية طويلة الأمد لإنقاذ مصر سيكونون جميعا على أهبة الاستعداد لتخريب كل حلقة من حلقاتها. إقليميا سيحظى ترشح السيسي بدعم قوي من عدد من الدول العربية، ولا سيما في الخليج، وسيكون قادرا على تصحيح العلاقات مع الدول الكبرى في العالم في الشرق والغرب، ولكن تركيزه الأكبر يجب أن يكون على الداخل المصري، فهناك تكمن المشروعية كما يكمن النجاح والفشل. جدل آخر سيكون له الصوت الأعلى في هذه المرحلة، وهو جدل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، أيهما يكون أولا؟ وثمة تخوفات من تقديم الانتخابات الرئاسية على البرلمانية وبخاصة بعد تجربة مرسي، ولكن لجنة الدستور تركت موضوع الحسم بيد رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور. عودا على بدء، وكمثال واحد من عدة أمثلة من التاريخ، ففي الثورة الأميركية و”كما تنبأ جون آدمز، سيشكل إرساء حكومة وطنية حقيقية (أعقد مهمة وأهمها وأخطرها وأدقها)”. كما جاء في كتاب ديفيد أو. ستيوارت ”الرجال الذين اخترعوا الدستور. صيف 1787” الذي أضاف عن الجنرال جورج واشنطن قبل عام من توليه منصب الرئيس الأول للولايات المتحدة قائلا: ”كانت الرهانات بالنسبة إليه عالية على نحو غير مألوف؛ فبصفته الرجل المتفوق في أميركا، كان كل عمل علني يقوم به محل ملاحظة وتأويل. فلو بدا تواقا إلى إعادة تشكيل الحكومة لرأى بعضهم في ذلك اغتصابا للسلطة. يقينا، كانت هيبته على قدر من العظمة يصعب أن تزداد رفعة بمؤتمر ناجح، ومع ذلك يمكن للمؤتمر أن يلطخها لو سارت أشغاله بشكل سيئ”. أخيرا، فيما لو ترشح السيسي سيكون أمام مهمة معقدة لبناء الدولة المصرية من جديد كما قال آدمز، ومواجهة كل التحديات والخصوم، فهل ينجح؟