تعد ظاهرة التسول من الظواهر الاجتماعية السلبية الضارة التي تعاني منها معظم المجتمعات على مختلف مستوياتها الحضارية، وكإفراز للمعطيات الحضرية شهد المجتمع الجزائري بصفة عامة وولاية قسنطينة بصفة خاصة نوعا من هذه الظاهرة وجب الحد منها أو القضاء عليها حيث أن التسول هو طلب المال، و الطعام، من عموم الناس، لكن اليوم تحول إلى مهنة مقننة ومنظمة من طرف عصابات مختصة، حيث تجد لكل متسول مكانه ووقت عمله، و أجرته اليومية. آخر ساعة اختارت أن ترافق هؤلاء المساكين الأغنياء، وقد زرناهم في سرية تامة بمختلف الفضاءات العمومية بعاصمة الشرق الجزائري، كالأرصفة والحدائق والمساجد وحتى المقابر التي تحولت إلى أمكنة احتكرها المتسولون من كل الفئات أبدعوا في لغة الاستعطاف لكسب ثقة المارة الذين لا يترددون في عطائهم، حيث صارت «المواقع الإستراتيجية للتسول» محل صراع المتسولين، لأنها تكسبهم الربح السريع وتكوين ثروة طائلة حيث فاقت مداخيلهم المليون سنتيم يوميا للفرد الواحد حيث يأخذ منها جزء ويسلم الآخر لقائد المتسولين الذي ينظم لهم الأماكن ويوفر لهم الحماية، خاصة وأن «الطلاب» يستعمل كل الوسائل لاستعطاف المارة على غرار الأطفال والرضع الذين أدخلوا عالم التسول من بابه الواسع، كتقنية حديثة لكسب قلوب المارة، حيث اتخذوا لأنفسهم أماكن دائمة على حافة الرصيف وعند مخارج محلات بيع الخبز والحلويات، والمطاعم ومراكز البريد والبنوك، لكن الشيء المحير هو أنك لو اشتريت لأحد المتسولين خبزا أو حليب يرفضه ويقول لك أريد المال...؟ المعوقون و الرضع وآثار الجروح، والآيات القرآنية.. الأسلحة الفتاكة للمتسولين ما لمسناه خلال جولتنا أن عصابات التسول تعمل بذكاء كبير حيث أنها تستعمل الأشخاص الذين يعانون من عاهات تشفع لهم عند الناس فيقتنعون بمساعدتهم، والمثير أن أغلب المتسولين يصطنعون عاهة على حساب صحتهم خاصة تلك الجراح العميقة التي لا يأبهون بالأضرار التي ستلحق بهم جراء مثل هذه الأفعال، أما البعض الآخر فإنه يستعمل الآيات القرآنية المكتوبة على الأوراق أو المصاحف، و لا تسمع منهم سوى أصوات تستنجد المارة أن يعطوهم من مال الله، ويدعون لكل من يفعل بالخير والستر والبركات،وفي نفس السياق هناك صنف من المتسولين والذي يعتبر الأكثر خطورة، و هن تلك النسوة اللائي يستعملن الأطفال من كل الفئات ابتداء من الشهر الأول وإلى غاية 12 سنة، وتعتبر الوسيلة الأكثر رواجا بين المتسولين الذين تجدهم يستعطفون المارة ببعض النقود لشراء مستلزمات الطفل خاصة حليب الأطفال، كما أن حالة الرضيع التي غالبا ما تكون متدهورة تجعل المارة يشفقون عليه ويحاولون تقديم كل أنواع المساعدة، وهو المشهد الذي يطرح بين طياته العديد من الأسئلة ومن أهمها، أين هو والد الطفل...؟ وهل هو ابنها...؟ أين مسكنها..؟ وهل الأم الحقيقية ترضى كل هذه المعاناة من برد ومطر على فلذة كبدها..؟ كلها أسئلة تركنا الإجابة عنها لبعض المواطنين. «عمي محمد» وهو شيخ طاعن في السن صرح لنا بأن المشاهد نفسها تتكرر يوميا، حيث تجد امرأة تحتل يوميا إحدى زوايا جسر سيدي مسيد رفقة رضيعها تستعطف المارة ليمنحوها بعض الدنانير لشراء كيس من الحليب لرضيعها، حسب ما تدعي فهناك من يشده المشهد ويتأثر به فيحسن إليها، وهناك من لا يأبه بتاتا بالصورة التي ألفها، مضيفا أحد بأنه من الصعب اليوم التفريق بين الذي يستحق حقيقة الصدقة وبين من يتسول بحثا عن الربح بعد أن تم فضح حقيقة العديد منهم بسبب تصرفاتهم اليومية. «عبد الحكيم» شاب آخر أكد لآخر ساعة بأنه يجد بعد كل صلاة جمعة عشرات النسوة أمام أبواب المساجد برفقة أطفال يستغلن صيحاتهم للتنافس فيما بينهن لاستعطاف المصلين، ويقول انه يفضل التصدق بما يستطيع إلى صناديق الزكاة عبر المساجد عوض تقديمها في الطريق العام. شهادات حية لبعض التجار خلال زيارتنا لبعض التجار ، حيث صرح الكثير منهم بأن حقيقة المتسولين جد خطيرة حيث يقوم كل نهاية يوم بزيارتهم حاملين معهم أكياس ضخمة من «الصرف» بغرض تبديلها بأوراق نقدية، وكم كانت دهشتنا كبيرة عندما علمنا بأن قيمة الصرف تفوق المليون سنتيم يوميا، وهو ما يعتبر هامش الربح ليوم من «الطلْبة» بين الأسواق وممرات المدينة. سبحان مغير الأحوال من الفقر إلى الغنى الفاحش.. ! كم سمعنا قصصا كثيرة عن فقير أصبح غنيا…. ربما في قصص ألف ليلة و ليلة أو هي حكاية كفاح، لكن فقير و متسول يصبح غني على عاتق الشعب المسكين الطيب هي فعلا قصة محزنة تذرف عليها الدموع الكثيرة، فكيف بمالي و مالك ينتهي في جيوب رجال خفاء يسيرون عصابات لنهب الناس باسم الدين و العطف، قصص كثيرة يحكيها الشارع لكن أين هي الحقيقة و أين هو الواقع، لعل أبرزها هي قصة «فريد» الذي يعرفه الكثير في مدينة قسنطينة وهو شاب عاش كل عمره كمتسول متنقل بين الولايات منذ سنين طويلة جدا لكن هل أتت ثمارها، أجيبكم بكل بساطة نعم فقد تمكنت هذا الطلاب من بناء منزل و تكوين أسرة بل حتى قد صار غنيا جدا ويشار إليه بالأصبع… إلا أنه لم يستطع وضع نهاية لروايته بكل بساطة فقد عشق سهولة هذه المهنة التي قضى فيها أكثر من 20 سنة، وهو حاليا يمتلك عائلة و السيارات الفخمة، لكنه لا يدرك الخطر المحدق به خاصة وأن أولاده قد كبروا وأصبحوا يستحون من أفعال والدهم اليوم الذي لا زال لحد الساعة يمتهن التوسل و في كل مرة يصادفونه فيها يقوم بطلب يد العون منهم دون أن يدرك أنهم أولاده. الدولة تضرب المتسولين بيد من حديد لكن..؟ أرادت وزارة التضامن احتواء ظاهرة التسول بعد أن انتشرت بعدة أشكال عبر كامل التراب الوطني وذلك من خلال إعداد تحقيق معمق عن الظاهرة لإبراز أسباب انتشارها وكيفية الحد منها مستقبلا، خاصة وأن وزارة الشؤون الدينية والأوقاف نظمت عمليات جمع الزكاة من خلال الصناديق الموزعة عبر المساجد، بعد أن سلمت مهمة توزيعها لمديرية خاصة تقوم بإحصاء العائلات الفقيرة لمد يد المساعدة لها، لكن وحدات حماية الأحداث للأمن والدرك الوطنيين يعانون من الثغرات القانونية في مجال حماية الأطفال من استغلال الوالدين في التسول، وفي هذا الشأن أشار مصدر عليم من نفس الهيئات السالفة الذكر بأنه في كل مرة يتم نزع الأطفال من العائلات التي تستغلهم في التسول، يتم إرجاعهم من طرف المحكمة بعد أيام فقط، وهو ما يجعل هذه الوحدات تفضل عدم التدخل إلا في حالة اكتشاف خطر محدق بالطفل المستغل في ظاهرة التسول. عصابات التسول وجدت راحتها في استغلال وسرقة الناس لأنهم طيبون ويحبون أن يساعدوا بعضهم بعضا ولا يحبون أن يروا إخوانا لهم يتضورون جوعا أو يرتعدون بردا أو يتصبب عرقهم بسبب قلة الأموال ولكنهم في الوقت ذاته يرفضون بالمطلق أن يشعروا بأنهم ضحايا نصب وتكسب، خاصة وأنهم اكتشفوا في العديد من الأحيان أن المتسولين الذين كانوا يعطفون عليهم وهم يخاطبونهم بلهجات المحببة إلى قلوبهم قد خدعتهم وان الرجل سيء المنظر الأشعث الأغبر كان غنيا وبالتالي فهو كان يضحك عليهم عندها تنقطع الرحمة بين الناس ويصبحون وحوشا بعد أن كانوا رحماء فيما بينهم، وهي النتيجة التي تخيف الكثيرين وتتطلب تكاثف الجهود بين المواطنين والدولة من أجل وضع حد لمثل هته العصابات التي انتشرت انتشار النار في الهشيم.