الدخول الاجتماعي بطعم مميّز هذا العام، لأنّنا نمرّ بالذكرى الخمسين للاستقلال، ويُفترض أن يظهر ذلك على جميع الشرائح الاجتماعية والمؤسسات الخدمية والتعليمية والصحية والإدارية حيث تباشر الموسم الجديد بما يتناسب وعظمة الذكرى، وهكذا نشهد دخولا تنعدم فيه التجاذبات وتصفية الحسابات وليّ الأذرع، وتسود بالتالي ثقافة التعاون والتآزر والعمل الحقيقي الجادّ لمصلحة الوطن والمواطن . وحتى لا نحلّق في عوالم الخيال، سوف ننظر إلى الواقع الذي بين أيدينا، ومن هناك نقدّر حجم المشاكل والتراكمات والتناقضات التي خلّفتها أزمات متتالية مرت بها البلاد، لكنّ هذا الأمر لا يبرّر لنا ما نحن فيه.. فليس خطأ أن تعود أدراجك، ما دمتَ قد مشيتَ في الطريق الخطأ. ولعلّ أعظم الخطايا التي وقعت فيها منظومتنا السياسية والاقتصادية خلال العشرين سنة الأخيرة هو ذلك الاندفاع الجنوني على الخارج وفتح الحدود لكل من هبّ ودبّ ليُدخل ما شاء، وعيناه مغمضتان بالكامل عن كلّ شيء سوى ذلك اليوم الذي يبيع فيه أحماله وأثقاله ويعدّ دنانيره ويبتسم فرحا بأرباحه ثم ينطلق لعيد الكرّة من جديد.. والنتيجة هذه الأعداد الكبيرة من البطّالين ومؤسسات وقطاعات صارت في عداد الموتى بعد أن كانت تعجّ بالحركة والنشاط والإنتاج وتمدّ السوق الوطني بحاجته وتصل حتى خارج الحدود. ولعلّ من أغرب القرارات، ونحن نستقبل الدخول الاجتماعي الجديد، تلك الطريقة التي عالجت بها الجهات الوصيّة النقص في اللحوم البيضاء والذي يقدّر بأربعين في المائة من حجم الاستهلاك الوطني.. لقد اختار المسؤولون الطريق الأسهل، واتجهوا مباشرة إلى الاستيراد وكأننا في دولة صغيرة الحجم قليلة الموارد، ولسنا في دولة بحجم قارة تتنوع مناطقها وتضاريسها وإمكانياتها. كان الأجدر بتلك الجهة الوصية أن تبادر إلى خطة طموحة تعتمد على تشجيع الإنتاج الوطني عبر قروض ميسّرة، واستيراد ما يلزم من المواد الأولية، ثم تدريب الكوادر الوطنية وتشجيع البحث العلمي في هذا الشأن، ونصل بعدها إلى إنتاج قد يفيض على حاجتنا فيجد طريقه إلى دول الجوار.. وكان الأولى بتلك الجهة الوصية أن تعفي المنتجين من الضرائب وتمدّهم بما يحتاجون وتشجّعهم على الصمود في مواقع الإنتاج، بدل إعفاء المستوردين وبالتالي إغراء البقية الباقية من المنتجين بالهجرة نحو الاستيراد. مع هذا الدخول الاجتماعي بدأت كلّ من وزارتي التجارة والداخلية حملة تستهدف الأسواق الفوضوية والتجارة الموازية التي تكلفّ خزينة الدولة خسائر ضخمة، وهي خطوة محمودة، فما أجمل أن تكون الأسواق في أماكن معروفة محددة وليست في كل مكان، وما أحسن أن يجد المواطن طعامه وشرابه ولباسه في محلاّت تحترم معايير النظافة والصحة وتقدم خدمات راقية. لكنّ هذه الحملة تدفع إلى التساؤل عن الحال التي وصلنا إليها بعد خمسين عاما من الاستقلال، وهي أنّ بيننا فئة معتبرة لا تؤمن بالدولة وحقها في الجباية الضريبية، وأكثر من ذلك ربّما تعتبر التهرّب عن دفع الحقوق بطولة ونوعا من الذكاء، وعكسه هو الغباء وربما الجنون. نعم.. لا بد من تطبيق القانون بصرامة على الجميع، وهكذا تزول الأسواق العشوائية، لكننا في حاجة قبل ذلك إلى جوّ من الثقة يسود بين المواطن والحكومة لينتج وضعا قائما على قناعة وقانون في الوقت ذاته، ويدوم بعد ذلك ويزدهر ويتحول إلى سلوك حضاري في الممارسة التجارية والاقتصادية، وعندها سيلتزم التاجر بالأداء الضريبي وهو سعيد لأنّه يدرك فائدة ذلك عليه. بالله عليكم.. كيف نتوقع من المواطن أن يتجه إلى إدارة الضرائب لأداء ما عليه وهو يغنّي من شدّة الفرح أو يردّد الأناشيد الوطنية، ويعود مسرورا إلى زملائه وجيرانه ليطلعهم على هذا الخبر السعيد.. فقد أدى الواجب الذي على كاهله.. كيف يفعل ذلك وقد فتح الجريدة منذ الصباح الباكر فقرأ عن اختلاسات وقضايا فساد يشيب لها الولدان، وأكثر من ذلك تعوّد أن يسمع كلام الناس عن فلان الذي دخل صفر اليدين إلى البلدية، حتى لا نتحدّث عن مستويات أعلى، وخرج وهو منتفخ البطن والجيب والحسابات البنكية.. كيف نتوقع الثقة من المواطن وفضيحة الخليفة قد قُيّدت ضد مجهول إلى الآن، أو ضد شخص واحد هرب إلى لندن ولا يرى أحدٌ جهودا كافية تبذل لإعادته، ولو وُجدت تلك الجهود فستستغرق سنين عددا لطبيعة القضاء البريطاني وإجراءاته الطويلة. إن المشاكل الاجتماعية ليست أرقاما من التجاوزات.. إنها تراكمات ينبغي أن نناقشها بروح وطنية عالية.. لكنّ هل توجد تلك الروح عند جميع مسؤولينا؟.. سألت صحفية المجاهد والإعلامي والباحث الطاهر بن عيشة هذا السؤال، كما ورد في حوار معه بإحدى اليوميات الوطنية: (كمثقف كيف ترى العلاقات الفرنسية الجزائرية في ظل وجود تيار مرتبط فكريا وثقافيا بفرنسا يدعو إلى توطيد العلاقات معها حتى وإن كان ذلك على حساب دماء الشهداء؟).. أجاب عميّ الطاهر: (لم تقتصر الجرائم الفرنسية على نهب الثروات والأراضي، ولكن دمرتنا حتى من الداخل وسعت جاهدة من أجل محو معالم الهوية الوطنية الأصيلة، وكم أتأسف عندما أشاهد العديد من المسؤولين والشخصيات "الوطنية" تغمرها السعادة وهي تتحدث باللغة الفرنسية، وهو ما يعكس أنهم ما زالوا محتلين من الداخل، ويبقى من الصعب بالنسبة لي أن أثق في الأشخاص الذي لا يتحدثون إلا باللغة الفرنسية ولا يعالجون إلا بمستشفيات فرنسا).. بيت القصيد في هذا الكلام هو الثقة.. وكم أتمنى من كلّ قلبي أن تكون نسبة من يعنيهم (عمّي الطاهر) قليلة، وأن تبادر الجهات المعنية بتشييد جسور الثقة مع المواطن، وعندها ستزول المشاكل العالقة بنسبة تفوق تسعة وتسعين في المائة.. إنّه سحر الثقة أيها السادة