تكتشف وأنت تجلس إلى المجاهد والاعلامي والباحث الطاهر بن عيشة، من الوهلة الاولى الوطنية التي يتمتع والتي تنعكس بوضوح من خلال "سخطه" مرة و"تهجمه" مرة أخرى على كل من يشم فيه رائحة خيانة الجزائر، وادت به مواقفه إلى الوقوف ومقاطعة أكبر رجالات الحكم والسياسية في بلادنا، ورغم ذلك بقي شعاره حتى بعد مرور 50 سنة من الاستقلال: "لا يجمعني بالآخرين الا حب الجزائر"، "الشروق"، اغتنمت فرصة زيارة عمي الطاهر إلى مقرها لمحاورته ومعرفة آرائه حول مختلف الأحداث التي تعيشها الساحة الوطنية. بدايةً، ما رأيك في الاحتفالات التي اقيمت احتفاء بمرور خمسين سنة من على الاستقلال؟ وهل هي في مستوى تضحيات الشهداء؟ في الحقيقة لم ترق إلى تطلعاتي كمناضل بسيط، للأسف الدولة لم تحقق المطلوب منها حتى بعد مرور نصف قرن على خروج فرنسا، الأجواء كانت مشحونة بمبادئ الثورة مطلع الاستقلال، وقامت الدولة في ذلك الوقت بالقضاء على البطالة وتاميم آبار البترول، لكن اليوم نلاحظ أن هذه الآبار التي أممت قد عادت إلى سارقيها وللذين نهبوها من قبل تحت مظلة الاستعمار، كما أن فرنسا لم تكف عن دعم الأقدام السوداء، وهو اأامر الذي يوحي بأنها مازالت تطمح في العودة من خلالهم. كمثقف، كيف ترى العلاقات الجزائرية الفرنسية في ظل وجود تيار مرتبط فكريا وثقافيا بفرنسا يدعو إلى توطيد العلاقات معها حتى وإن كان على حساب دماء الشهداء؟ لم تقتصر الجرائم الفرنسية على نهب الثروات والأراضي، ولكن دمرتنا حتى من الداخل وسعت جاهدة من أجل محو معالم الهوية الوطنية الأصيلة، وكم أتأسف عندما أشاهد العديد من المسؤولين والشخصيات "الوطنية" تغمرها السعادة وهي تتحدث باللغة الفرنسية، وهو ما يعكس أنهم مازالوا محتلين من الداخل، ويبقى من الصعب بالنسبة لي أن أثق في الاشخاص الذين لا يتحدثون إلا باللغة الفرنسية ولا يعالجون إلا بمستشفسيات فرنسا، وتبقى الحملة التي قامت من أجل مطالبة فرنسا الاعتراف بجرائمها غير كافية لأنني أعتقد أن فرنسا المجرمة لن تصبح "بريئة" يوما ما، والأجدر بنا اليوم أن نطالب فرنسا بدفع ثمن مدة قرن ونصف قضته في نهب ثروات بلادنا. خمسون سنة بعد الاستقلال، مازالت الجزائر تراهن على بعض الإنجازات الشكلية، في حين يرى متتبعون أن الرهان الأكبر الذي كان عليها أن ترفعه هو الاستثمار في الفرد، ما رأيك؟ عندما نتحدث عن الفرد، أقول أنه كان ينبغي العمل من أجل بناء فرد مؤهل لخدمة الوطن، ولا أقصد بحديثي أي شخص بل الشخص الذي يتوفر على مؤهلات لخدمة الوطن اقتصاديا والفرد المسكون بخدمة الشعب الجزائري وليس بنهب ثروات هذا البلد، وبالتالي كان على السلطات أن تولي هذا النوع من الاشخاص فرصة لخدمة الوطن، بينما الذين تولوا المسؤولية واغتنموا نفوذهم في نهب خيرات البلاد فلا فرق بينهم وبين الفرنسيين واليهود الذين كانوا في بلادنا في عهد الاحتلال، - يصمت ثم يضيف - نحن في حاجة لمن يؤمن ويخلص لهذا البلد فقط، لمن يعمل من أجل صالح المواطن الجزائري ويعمل فعلا من أجل الرفع من مستوى الشعب ويمنحه ثقة أكثر في نفسه، ويعامله كشعب قام بثورة، وأحب أن أقول أن ثورتنا لم تنته بإخراج الفرنسيين، لأن "المتفرنسين" والمتشبعين بالثقافة الفرنسية هم الذين يسيرون شؤون البلاد. عاشت الجزائر في السبعينيات حركية كبيرة افتقدناها اليوم، وما سر اختفاء المنتديات التي كانت تجمع المثقفين؟ كثيرة ومتعددة هي الأسباب التي آلت بالحقل الثقافي في بلادنا إلى ما هو عليه، فإذا تحدثنا عن الأسرة الثقافية، منهم من أكلهم الموت والآخرون صدموا فانكمشوا، فشجعت السلطات جيلا آخر للقضاء على الجيل الذي يحمل مضمونا ثوريا للأدب والفن والرواية والقصة، بدل تشجيعهم على مواصلة العمل من أجل تحرير البلد واستكمال النضال من أجل بناء الجزائر الحرة، لكن الآن لم تعد أية قيمة لا للكتاب ولا لاتحاد الكتاب. ما هي الأشياء التي تأسف لفقدانها ونحن نعيش على وقع الاحتفال بالذكرى الخمسين للاستقلال؟ بعد النهضة التي شهدها اتحاد الكتاب، حيث نجح في لم شمل الكتاب الجزائريين من قصصيين وروائيين وباحثين، اندثر اليوم ولم يعد وجود لهذه الهيئة، التي تحول مقرها إلى ملكية خاصة لبيع الكتب و"السندوتشات"، ولم تعد الروح الوطنية ولا الجزائر تجمع أعضاءه. في هذا السياق؛ ألا تعتبر ان رحيل بعض الاسماء الثقافية على غرار أبي الأدب الجزائري الطاهر وطار خسارة كبيرة، خاصة وأن الساحة أصبحت عقيمة عن إنجاب شخصيات ثقافية بحجمه؟ قاطعت الراحل الطاهر وطار بعد 45 سنة من الصداقة. وما هو سبب؟ السبب مقنع جدا، وهو أنه أصبح يتملق أشياءَ وانساق ضمن التيار الذي لا يؤمن بوحدة الشعب الجزائري، ويعمل من أجل تغذية النوازع البربرية بين افراده، فقلت له ذات مرة "أتمنى ان لا يُريني الله وجهك بعد اليوم" وخرجت من عنده، وتوفي دون أن نتصالح، ما يجمعني بالآخرين هو حب الجزائر ولا شيء غير الجزائر، بينما شعار "لكل دوار وطن" فلا مكان لأهله عندي، نفس الشيء حدث لي مع الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، الذي اختلفت معه بسبب طريقة إداراته لشؤون البلاد، جزء كبير من وزراء الدولة كانوا من "منطقة واحدة"، ورغم أن تسيير البلاد يتطلب رجالا يفقهون في الصناعة والثقافة والاقتصاد ومختلف العلوم، ونرى السياسيين اليوم أصبحوا لا يترددون في الترشح سبع مرات لنيل مقاعد في البرلمان رغم أنهم لا يتوفرون على الشروط اللازمة، وبسبب خلافي مع بن بلة توفيت زوجته "زهور" ولم أعزه فيها رغم أننا كنا صديقين مقربين ورحل إلى دار الفناء ونحن متخاصمان. هل كانت تربطك به علاقة متينة؟ نعم، كانت علاقتي متينة به، وكنت أزوره بشكل متواصل في منزله وكنت أصارحه بمواقفي ولا أخفي عنه شيئا، ومعروف عني أنني كنت أجهر بمواقفي ولا أخاف لومة لائم رغم المشاكل التي كنت اجنيها بسبب ذلك، واذكر حادثة وقعت لي في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين، حيث كنت خارجا من مبنى الإذاعة الوطنية غاضبا ومثقلا بهموم المشاكل التي كانت تتخبط فيها البلاد، فقلت لأحدهم "أعطني واحدة نورمال" وكنت أقصد "قنينة خمر" فلم يفهم قصدي فقلت له هل يوجد شيء في هذا البلد "نورمال غير الخمر"، فقاموا بنقل ما قلت لهواري بومدين، وأصبحت مراقبا من طرف الامن بسبب تلك العبارة، وخلال اجتماع اتحاد الكتاب العرب غاب بومدين لكنه أرسل في طلبي، وتزامن ذلك مع الفترة التي حدث فيها الانقلاب، فقلت في نفسي "إنا لله وإنا اليه راجعون" وأوصيت أحد أصدقائي قائلا "إذا وجدتني ميتا فاذهب إلى "سانت اوغستين" حيث يوجد منزلي وقل لزوجتي بأن تأخذ الأولاد وتذهب إلى بيت العائلة في وادي سوف، وذهبت إليه والتقيته وأذكر أنه كان يرتدي برنوسا كعادته وعندما رآني ابتسم وقال لي "أريد أن أسالك سؤالا فقال لي "هل أنت في حاجة إلى شيء..؟ وبعدها قال لي أنت شخص صعب الميراس فأجبته بقولي لست كذلك بينما الحقيقة في بعض الأحيان تكون كذلك"، فقال لي بعدها، قلت مرة "كل حاجة في هاذ لبلاد ماشي نورمال غير البيرة، فقال لي بعدها هل تعيد العبارة الآن؟ فقلت له مؤكد أنا مصر على ما قلت ولن أقول إلا الحقيقة"، فعاد وطرح علي نفس السؤال وقال لي "هل أنت في حاجة إلى شيء؟ فقلت له.. لست في حاجة إلى شيء". هل هذا يعني أنه حاول شراء ذمتك؟ هذا صحيح ولكن وجد نفسه مع صنف من الأشخاص لم ير ولم يعرف مثله في حياته. هل استطاع بن عيشة التكيف تكنولوجيا مع العصر الحديث أم أنه مازال يطلع عل جديد الشأن الثقافي عبر صفحات الجرائد والكتب؟ عندما أرى الاولاد يتخاصمون من أجل "الأنترنت" أقول لهم هذا عالمكم وهذه ثقافتكم، وهذا منتوجكم، بينما أنا اكتفي بجهاز التلفزيون والجرائد وكل يوم أشتري كيس جرائد وأقوم بقراءتها، رغم وجود بعض الجرائد الفرونكوفونية التي تتبنى التيار الذي يدعم تمزيق الجزائر وتخصص يوميا صفحتين لتمزيق هذا الشعب. ألا تفكر في كتابة مذكراتك، وإن حدث ذلك ما هي الأحداث التي تشكل أولوية بالنسبة إليك؟ أشياء كثيرة في حياتي غير الأمور السياسية، لأنني أعتقد أن ما يستحق أن يدون هو الأمور المتعلقة بالاستعمار، خاصة في المناطق الصحراوية وفترة دخولي إلى السجن سنه 1952 والحالة الاجتماعية للجزائريين في ذلك الوقت، وأشياء اخرى كثيرة، اعتقد ان كل الجزائريين مسؤولون عن قضية تمزيق الجزائر، أنا متشائم بشأن هذا الوضع، وأنا أرى الجميع لا يحرك ساكنا أمام من يستهدفونه، وأصبحنا نرى الكتّاب الجزائريين يزورون "تل ابيب" دون أن توجه لهم أية ملاحظات أو إنذارات، رغم أنه ممنوع علينا الذهاب إلى "تل ابيب" من الجانب الأخلاقي، وأعتقد أن هذه الشريحة تساهم في تعزيز دور امريكا التي تخطط لاحتلال العالم، فهي اليوم لم تعد مكتفية بالولايات الأمريكيةالمتحدة بل هي تسعى لأن تكون "ولايات العالم المتحدة"، ويبقى علينا أن نحارب الجهوية والتفطن إلى كل الدول التي تتآمر على استقلالنا وثرواتنا وغلق كل الأبواب عليها. مر أكثر من شهرين على الانتخابات البرلمانية، لكن الحكومة لم تتشكل بعد، البلد يشهد غليانا؟ الحرس البلدي كانوا سباقين لإنقاذ الجزائر من هيمنة الارهاب هم الآن وللاسف يتعرضون للقمع عوض ترقيتم وشكرهم ومنحهم حقوقهم، أمننا مهدد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، ولكن من المؤسف ان نتفاوض مع عناصر القاعدة في مالي ونقمع اصحاب الحقوق، واعتقد ان سبب تعطل قيام الحكومة الجديدة هو غياب برنامج جديد وهادف كما أنهم يسعون لإطالة ايامهم على كراسي الحكم. كيف تقضي وقتك في رمضان؟ أقضي معظم وقتي في المطالعة وقراءة الكتب في مختلف التخصصات، ولا امل من القراءة وأستفيد منها بشكل كبير، وأقرأ بشكل يومي بمعدل ثماني ساعات من اربع وعشرين ساعة، وأصل في بعض الاحيان اثني عشرة ساعة.. ودائما أقول ربما أنا الشخص الوحيد في العالم الذي يجوع من عقله ولا يجوع من بطنه.