تعيش منطقة بلاد القبائل الجزائرية ذات الأغلبية الأمازيغية منذ سنوات قليلة حالة من الحراك الفكري - الديني الاستثنائي لم تعرف مثيلا له في يوم من الأيام بعد أن توفرت لها ترجمة كاملة للقرآن الكريم ولأول مرة بالأمازيغية، وهي التي حُرمت من هذا المعين بلغتها منذ أن دخل الإسلام الجزائر، حيث ظلت تقترب منه (أي القرآن) فقط عن طريق العربية وحدها أو في بعض الأحيان عن طريق الفرنسية، التي تُرجم إليها من قبل بعض المستشرقين أو المجتهدين الجزائريين يوم كانت تفرض تلك اللغة على المنطقة وعلى الوطن بكامله. أما (الترجمة) الأمازيغية المتداولة اليوم فقد قام بها ودققها نفر طيب من العلماء مؤخرا لما وجدوا أن حاجة الناس تزداد إلى ذلك يوما بعد آخر في تلك المنطقة التي ما تفتأ تتعرض ومنذ دخول الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر عام (1830) ولغاية اليوم إلى حملات التنصير المنظمة، ما سبب للناس الكثير من القلق على هويتهم الثقافية والفكرية والتاريخية التي تربطهم بأبناء الوطن جميعا منذ آلاف السنين. حملنا أسئلتنا ومعها فرح الناس بهذا المنجز الذي تأخر كثيرا إلى شيخ الكتاب الجزائريين الأمازيغي الوطني العروبي الأستاذ محمد الصالح الصديق (أطال الله في عمره) لنقف معه على ما أضافته هذه الترجمة عمليا إلى الحراك في المنطقة وفي الجزائر بشكل عام وربما في منطقة المغرب الكبير كذلك. والأستاذ محمد الصالح الصديق غني عن أي تعريف في كامل منطقة المغرب وكذلك في غيرها من البلاد العربية، فهو المناضل الكبير إبان حرب التحرير، وهو كذلك المفكر والأديب الذي أغنى الساحتين العلمية والثقافية بأكثر من تسعين عنوانا في شتى ميادين المعرفة ولا يزال يعطي من جهده الكثير بالرغم من سنه المتقدمة. في بيته الجميل، استقبلنا وأتاح لنا فرصة الحوار معه في موضوع ترجمة القرآن الكريم بشكل عام وكذلك في الترجمة الأمازيغية المتداولة بين الناس هذه الأيام• والأمازيغية كما نعلم هي اللغة الأصلية التاريخية لكامل منطقة المغرب الكبير وهي ماتزال مع الأسف لم تستقر على حرف ثابت يتمم لها مقومات اللغة بالمعنى المتعارف عليه. سألنا الأستاذ بداية عن ماهية كل من الترجمة والتعريب ؟ هناك فرق كبير بين الترجمة والتعريب، فالترجمة هي نقل ما عُبر عنه بلغة معينة إلى لغة أخرى وهي فن قديم قدم الأدب المدون• أما التعريب فهو نقل لفظ أعجمي من صفته الأعجمية إلى صيغة عربية، وقد عني أئمة اللغة العربية بالترجمة والتعريب معا عناية مرموقة وكتبوا فيها دراسات وأبحاثا دعتهم إليها حاجة العرب إلى النقل عن ألسنة الأعاجم وبالأخص خلال النهضة العباسية. وماذا عن الترجمتين اللفظية والمعنوية؟ إن الترجمة اللفظية هي أن تنظر إلى كل كلمة من الكلمات الأعجمية وما تدل عليه من المعنى ويُؤتى بكلمة عربية مرادفة لها في الدلالة بلا زيادة أو نقصان وبلا تقديم أو تأخير، وممن اشتهر بهذا عند العرب قديما يوحنا البطريق وابن الناعمة والحمصي. أما الترجمة المعنوية فهي أن يفهم المترجم الجملة الأعجمية ويعمق فيها وعيه وإدراكه ثم يسكبها في قالب أدبي ملائم وممن اشتهر عند العرب في هذا حنين بن اسحاق والجوهري. وهل ترجمة القرآن الكريم إلى لغة أخرى عملية ممكنة؟ وإذا كانت ممكنة أي الطريقتين أصح برأيك؟ يجب التقرير أولا بأن ترجمة القرآن إلى أية لغة أجنبية هو عمل هام جدير بكل مساندة وتشجيع لأنها ستمكن غير المتحدثين بالعربية من فهم هذا الكتاب الخالد الذي يصل الأرض بالسماء ويجب الاعتراف وبقوة بأن الترجمة الحرفية متعذرة ولا سبيل إليها على الإطلاق، بل هي مستحيلة لأنها وقبل كل شيء ستفضي إلى المرفوض رفضا باتا شرعا ووجودا لأن مفردات القرآن هي إما حقيقة أو مجازا أو كناية وكل منها إما لغوي سبق به استعمال العرب، وإما شرعي ثابت أو مما انفرد به التنزيل، أو منها المشترك الذي وضع لعدة معان في اللغة يمكن معرفة المراد منها بالقرائن. وأذكر لكم فقط أن العلامة المرحوم رشيد رضا تحاور يوما مع طبيب تركي كان مهتما بموضوع ترجمة القرآن الكريم فأقام له حجة بالغة على استحالة الترجمة بهذه الطريقة حيث ذكر له الألفاظ: (الواقعة، القارعة، الطامة، الحاقة، الغاشية) وقال له كيف تترجم هذا؟ فقال الطبيب بأنه سيترجمها إلى (يوم القيامة) . فبين له خطأه الفادح حيث أنه بذلك سيفوت المعاني الاشتقاقية المقصودة في هذه الأسماء (المختلفة) وهي بيان صفات ذلك اليوم وما يقع فيه، وإذا ترجمها بمعناها الاشتقاقي فلن يُفهم منها أن المراد بها هو عضة يوم القيامة، وهكذا نجد أن لكل لفظ معنى وما يوحي به من أسرار أو إيحاءات. وباختصار، علينا أن نستقصي في كل لغة نريد أن نترجم إليها القرآن، الكثير من الدقة والأمانة. وماذا عن الترجمة المعنوية؟ نعم، إنها ممكنة لأنها عبارة عن نقل لمعنى الجمل من ألفاظها العربية إلى ألفاظ أخرى مناسبة غير عربية. وماذا عن النقل أو الترجمة إلى الأمازيغية؟•• وما رأيكم في النسخة المتداولة في الجزائر منذ سنوات، وبالأخص في منطقة زواوة ببلاد القبائل. إن الترجمة إلى هذه اللغة صعبة جدا، بل وعسيرة ولكنها ممكنة، لمن توفرت لديه القدرة الكافية على فهم القرآن والتفاعل معه وكذلك إجادة الأمازيغية بكل لهجاتها المختلفة من (قبائلية) و(شاوية) و(ميزابية) و (طوارقية) وغيرها مما هو متداول في كامل منطقة المغرب الكبير، وعدم الإجادة هذا سيحد كثيرا من الفائدة المرجوة. إن ما يظهر لي أن (الترجمة) الأمازيغية للقرآن هي أقرب ما تكون إلى التفسير منها إلى الترجمة لأنها ببساطة عبارة عن نقل لمعنى عربي إلى ألفاظ أمازيغية. أقول هذا بعد أن تابعت (الترجمة) المتداولة والتي قام بها مشكورا الشيخ العلامة محمد الطيب، وهو رأي لا أنفرد به وحدي، بل يشاركني فيه الكثير، ويجب التنويه كذلك إلى أن الرجل كان متمكنا (كما نعرفه) من النص ومن متابعته بإحساس عال وواع، ما أعطى لهذا الجهد قيمة عالية وجعل الناس تهتم به وتباركه وتحتفل به. وماذا عن الحرف الذي تراه مناسبا لهذا العمل، هل هو الحرف العربي أم اللاتيني أم حرف التيفيناغ الأمازيغي الذي يطالب باستخدامه بعضهم. أعتقد أن الأمر لا يجب أن يختلف فيه إثنان وهو ضرورة استخدام الحرف العربي، فهو الأسلم والأقرب وهو الجامع لأن العربية هي لغة الوطن التي يتعلمها جميع أبنائه في مدارسهم، وهو كذلك حرف القرآن ذاته، فلماذا الذهاب بعيدا؟ ••• أضف إلى ذلك أن المنطقة تتوفر على خيرة علماء القرآن في الوطن ممن احترفوا العربية على مدى قرون طويلة ولهم فيها إرث هام يستقي منه كل الجزائريين وغيرهم، وقد كان لهم كبير الأثر في التاريخ الفكري التنويري وحتى المقاوم الذي قارع المستعمر طويلا وقاوم محاولاته التنصيرية المعروفة، واعتقد أن كثرة الحروف لن تزيد الأمر إلا تشويشا في الساحة وبالأخص أن الترجمة أو التفسير بالعربية هما كما يبدو موجهان للجميع وليس لفريق دون آخر. بالفعل وكما تفضلتم فإن الترجمة التي تمت كانت بالحرف العربي ولكن ألا تعتقدون أن هذه الترجمة ستدفع آخرين للقيام بذات العمل ولكن بحروف أخرى، ما يدفع المنطقة إلى متاهة أو متاهات هي ليست في حاجة إليها؟ لا شك أن هذا صحيح تماما وهو أمر لن يكون في صالح الناس ولا في صالح وحدة المنطقة والوطن، الأمر الذي سيقود إلى الفوضى والتشتت وإلى اختلاف الإجتهادات كذلك، والقضية هنا تتعلق بأمور عقدية من غير المسموح الاقتراب منها إلا لذوي الاختصاص والعلم وهؤلاء يفترض أن يكونوا قريبين من الكتاب ومن لغته. من خلال تواصلنا مع عشرات الجاليات المسلمة في الخليج لاحظنا أنهم يتواصلون مع القرآن بلغاتهم (البدائية) من خلال كتاباتهم وترجماتهم، فكيف تفسرون الظاهرة؟ إن كثيرا من أهل الثقافات الأخرى المنتشرين عبر العالم قد ادعوا بأنهم ترجموا القرآن، غير أنهم في الواقع قد قاموا بالتفسير (كما أسلفت لكم) بلغاتهم ولهجاتهم ليس إلا بالضبط (كما فعلنا في الجزائر) وقد تجاوزت تلك الأعمال حسب بعض الباحثين المائة وعشرين في حوالي أربعين لغة وتكررت كثيرا طبعات تلك الأعمال حتى أت ترجمة واحدة هي ترجمة (جورج سيل) الإنجليزية طبعت أكثر من ثلاثين مرة، وإن كان لهذه الترجمات دلالات، فإن أوضحها وأعمقها هو عظمة هذا الكتاب الذي تلاقت عليه العقول والنوايا على اختلاف مشاربها •••إن عظمة القرآن كانت فقط بهذا الطابع، وهو بحروفه ولطائفه وأسراره وإشاراته يحمل سرا وسحرا خاصين، وإن هو نقل إلى لغة أو لهجة أخرى لم يعد قرآنا، وهو كما أسلفنا لكم بحاجة دائمة إلى أهل الكفاءة فهما وفنا ولغة حتى يكشفوا الحجب عنه ويرفعوا الستار ويقربوه من الراغبين. إننا لا نشك في حسن نية هؤلاء جميعا ولكن يجب على المنظمات العلمية أن تشرف على اجتهاداتهم أينما كانوا مثل منظمة المؤتمر الإسلامي التي يفترض ألا تكتفي في مؤتمراتها بالقضايا العامة للأمة، بل أن تكون حاضرة في تلك البلاد من خلال فروعها لتأدية الدور التوجيهي السليم في هذه العملية الدقيقة والحساسة، فلهجات ولغات هؤلاء الناس لا يمكن أن تتوفر على المصطلح الذي يؤدي المعنى التفسيري لنصوص القرآن. هل تعتقدون أن أعمال الترجمة تلك للمكون الأساسي للثقافة الإسلامية (القرآن الكريم) إلى لغات الآخرين، قد ساعدت على تفهم أكثر لهذا الدين وللثقافة العربية بشكل عام. دون شك في ذلك وإلا لما رأينا عبر التاريخ من قدم الدراسات المعمقة والأبحاث المستفيضة في ذلك من نخب فكرية ومستشرقين وباحثين كثر وراح يربط أثر وفعل ذلك القرآن والحياة العامة لأتباعه، بل وجعل بعضهم ينتسب بكل صدق إلى هذا الدين ويدافع عن كل صغيرة وكبيرة في كتابه المبين، بل ويدفع الأمر بعضهم إلى تعلم اللغة العربية للاستزادة والاقتراب أكثر منه لأن الترجمات لم تشبع حاجته كما يبدو. بناء على ما تفضلتم به، برأيكم ألا يتطلب التفاعل الحضاري المكثف والسريع هذه الأيام اعتماد ترجمة ثابتة للقرآن ببعض اللغات العالمية الشهيرة واعتبارها مراجع أقرب إلى الأصل حتى يتفهم الآخرون أكثر هذا القرآن تسهيلا لعملية حوار الأديان أو الثقافات أو الحضارات التي كثيرا ما نسمع عنها؟ لا شك أن تلك فكرة جيدة ولكنها صعبة التحقيق ومحدودة النتائج نظرا أولا لاختلاف المسلمين فيما بينهم، ونظرا كذلك للنظرة المسبقة التي يصر الآخرون (ممن لم يقترب بشكل جاد من القرآن وما يحويه) على تكريسها ••• ونظرا كذلك لقصور بعض المسلمين على تقديم أنفسهم كأبناء حقيقيين لثقافة القرآن. نشكركم على كل ما تفضلتم به ونتمنى لكم دوام الصحة والعطاء وأنا بدوري أشكركم وأشكر شجاعتكم واهتمامكم بهذا الموضوع الذي يشكل واحدا من أهم ركائز الفكر والثقافة العربيين ووجها منيرا سحر العالم وغيره، وما يزال، ليس فقط ببيانه ••• وأتمنى أن تواصلوا تقديم ثقافتنا للأجيال والدفاع عنها في وجه الأحكام المسبقة التي ما تزال مع الأسف تجهل عنها الكثير.