لم يبق إلا يومان وترحل دُور النشر عن سوق الكتاب الذي عاد هذا العام إلى مكانه المعتاد بعد أن خيَّمت به خلافات المسئولين عن الثقافة في العام الماضي قرب ملعبٍلكرة القدم، ويكون القارئ والسامع والمشاهد قد لاحظ المكانة الدونية للكتاب في وسائل الإعلام الوطنية التقليدية، فباستثناء اليوم الأول الذي خصصته الصحافة العمومية لزيارة رئيس الجمهورية، واكتفت فيه بتسجيل محطاته وتنقلاته عبر مختلف الأجنحة، وكان حريٌّ بها أن تُركِّز على أهم ما لفت انتباهه من مؤلَّفات جديدة، وهو المعروف عنه القراءة ومتابعة الإنتاج الفكري الجديد، وتعرَّضت الصحافة الخاصة إلى ما اعتبرته نواقص في المعرض، لم تحظَ طبعته السابعة عشرة بالمكانة التي تليق بالكتاب، باعتباره مفتاح التثقيف لدى كل شعب وأمة، فقد كان الحديث عنه في ذيل نشرات أخبار الصحافة السمعية البصرية، وبعد أخبار الحرائق التي استيقظت فجأة لتلتهم ما لم تأتِ عليه في هذا الصيف الأكثر حرارة خلال السنوات الأخيرة، أو في الأوقات الميِّتة التي لا يسمعها إلا المضطر الذي يُعَدّ كمن لا يسمع، أما في الجرائد الخاصة فكان اليُتم هو نصيب الكتاب، حيث حُشِر في صفحات الموتى والمنسيين، وهي الصفحات التي لا تستثير أحدا نظرا للزحف الكبير للموت على الحياة، وهو ما يُؤكِّد أننا ما زلنا نعيش الاعوجاج القديم الذي أعطى فيهسابقونا- اجتهادا منهم- أولوية البناء المادي الذي يحيط بالإنسان، على تكوين هذا الإنسان الحامي الأول والأخير لأيِّ بناء، فضاع الإنسان وهوَى البناء بعدما حاصرته الاحتياجات المادية المتنامية، وفعل بنفسه ما لا يفعله العدوّ بعدوِّه ! يبدو أن المسألة الثقافية هي آخر اهتمامات الصحافة الجزائرية، تماما كما هي آخر ما يُتمتِم به السياسيون إذا ما سُئلوا، ولأن الصحافة هي مرآة المجتمع كما يقال، فإن الثقافة تعيش غربة كبيرة في بلادٍ ما فتئت تُنجِب العلماء والمبدعين والعباقرة في مختلف المعارف، إلا أنهم يظلون يتلمّسون طريقهم في الظلام، فمنهم مَن يُفرَض عليه الانزواء حتى يُنسَى ليُذكَر في جيل آخر، ومنهم مَن يظل يقاوم فإذا رحل أثار زوبعة خلفه بين المثقفين وأدعيَّاء الثقافة، ومنهم مَن "حرڤ" إلى ضفاف أخرى فأضاءها إلى درجة أننا رحنا نسترق الاستنارة ممّن آووه بحكم القربى، ولأن الإعلام يخضع إلى قاعدة مفادها: تتَبُّع عورات المجتمع أجدى ماديا وأكثر جذبا للناس من إظهار ما بالمجتمع من طهارة ونبل وآمال، فإنه ظل يغرف من كل الحماقات التي تظهر هنا وهناك، كما فعل مع فيلم المعتوه الأمريكي الصهيوني الذي حاول الإساءة إلى أعظم إنسان كرّمته البشرية واجتباه الله، وراح - أي الإعلام -يجري وراء هذا المريض عند الذين أغاضهم فسارعوا إلى تصرفات متهوِّرة بعيدة عن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولدى زملائه المرضى ممّن يظنون أن تحطيم المقدّس وسب المعتقدات- من غير محرقة اليهود- هو حرية تعبير، ولولا الزميلة حزام حدّة مديرة يومية الفجر ما علم معظم القراء بحدثيْن كبيريْن لصالح الإسلام، غطت عنهما فظاعة الواقعة وما انجر عنها من أحداث، والحدثان هما تدشين جناح للفن الإسلامي بمتحف اللوفر بباريس، بعد عشر سنين كاملة من الإعداد والتحضير، واستوزار أول سيدة مسلمة في حكومة النرويج التي تلتقي مع البلدان المنخفضة في ارتفاع درجة حرارتها تجاه الإسلام الذي تجهله، فهلأبرمت الصحافة عقدا مع كل وضيع ترفعه وهزيل تنفخ فيه من روحها، لتُصبح منبرا للتيئيس والتنفير ومعاداة كل جميل يعمل ؟ الصحافة العمومية بمختلف أنواعها لا تنقل للناس غير الأخبار الوردية، عن جنة لا يروْنها في واقعهم الذي اكتووا بلهيبه، وحتى الفضاءات الجميلة القليلة في هذا الواقع، حوَّلتها تلك الدعاية إلى جيوب داكنة لسوء الظن الدائم في الحكم والساسة وإن صدقوا، أما الكلام عن الثقافة فلا يتعدَّى بضع أسطر في شكل أخبار سريعة، كُتِبت بأحرف "نحيفة" لا تكاد تُرَى، كأن كاتبها يريد أن يتخلص من بعض الزوائد، أما الصحافة الخاصة التي دخلت في شراكة مشبوهة مع المال السهل، فإنها لم ترَ في المسألة غير مضيعة للوقت، واستعاضت عنها بصفحات عديدة متنوِّعة عن الشذوذ الذي يكون مسّ بعض فئات المجتمع بحكم حراكه في جميع الاتجاهات، وتسليط الضوء على كل آفاته التي خرجت من قمقمها،بعد اتساع المجال الصحفي إلى كل مَن يريد أن يخوض مع الخائضين، أو تلك الوافدة نتيجة اكتساح ثقافة الاستهلاك المجتمع بعد فقدانهلكثيرمن أسباب المناعة، وتظل المساحة الضيِّقة المخصّصة للحياة الثقافية على قِلّتها عرضة لزحف الاشهار الذي ما إن يحل، حتى يَجْرفها خارج أوراق الجريدة . قد يكون رجال المال والأعمال وأثرياء الجزائر الجدد، اكتسحوا عالم الصحافة واستولوا على النصيب الأكبر منه، ودجَّنوا العاملين فيما بقي منه، ممّن كانوا محترفين نبلاء في مهنة المتاعب، لأن أعينهم مُصوَّبة فقط على الجرْي وراء الربح السريع الذي يتناقض مع الاستثمار في الثقافة، ويكونون بذلك قد ساهموا مساهمة "جبارة" في وئدها، واستبدالها بثقافة الاستهلاك التي أهلكت شعوبا كانت أكثر حصانة بما حققته من تقدّم علمي وتقني وتكنولوجي وانتشار عسكري نفتقر نحن لمعظمه، فهل الذنب ذنب الصحافة أم ذنب السياسة، أو العلة في النخب والساسة ممّن يتوزّعون على مختلف مرافق الدولة، وقد حصر العامل فيهم المطلب الثقافي، إما في غناءٍ منحرف تافه يسيء إلى الذوق العامويخدش حياء المجتمع، أو في فلكلور محنَّط يُدلِّل على قابلية المجتمع للذوبان طواعية في الآخر، أو بتقليد أعمَى لثقافة مَن يُعتَقَد أنه قويّ لإثبات الولاء والتبعية له . إذا كانت ثقافة أيِّ مجتمع، هي الأرضية التي تُقلِع منها الأمة، فإن العبث بها أو إهمالها أو استبدالها سيُغرِقها في الوحل، أو يجعلها تطير في اتجاه خاطئ فتسقط بعد حين، أو تبقى جاثمة على الأرض وقد انفضت من حولها الأمم، وهذا التوصيف- في اعتقادي- ما هو إلا دقٌّ قويٌّ لناقوس الخطر، يُحتِّم على الصحافة "الوطنية" أن تعود إلى رشدها، فتُفرِد صفحات كاملة من نشرها، أو حصصا خاصة أو قنوات متخصِّصة من بثِّها، إلى هذا المطلب الوطني الكبير، وإن لم تفعل فعلى رُعاة المجتمع، ممن يملكون سلطة ترشيدها،ويسهرون على ضمان حق المواطن في التثقيف، ويعملون على حماية حرية التعبير من أي انحراف يضر المجتمع، أن يفرضوا على كل نشرية، ملاحق يومية تخوض في الجوانب الثقافية المتنوِّعة من حياة الأمة، مقابل الاستفادة من الإشهار، فقد يكون ذلك أيضا تخليصا لبعض وسائل الإعلام من سطوة أولئك الذين راحوا يُسوِّقون للأنا الفردي أو الفئوي أو السياسي، على حساب الترويج لثقافة الأمة ... [email protected]