العملاق ماركيز تلحف وقتاً بالصحافة أيضا، وغيره الكثيرون، وقد يشبه هذا الربط بديهة لا يمكنها إثارة الانتباه لكثرة ما ظلت حتمية شبه مؤكدة في مسار حياة معظم الكتاب، فها هو طه حسين في ستينيات القرن الماضي رئيس تحرير جريدة الجمهورية، وأمامه عباس العقاد ظل يكتب مقالاته في جريدة "الأخبار" إلى حين وفاته.. لذا لا يبدو أننا سنمسك النقاش من يده التي توجعه على رأي المصرين، لأن الأيادي في هذا المجال صديقة وحميمية جداً كونها تشد جميعها على القلم. لو نبدأ الحكاية بمنطق الوصول فسوف نجد أن الموهبة الإبداعية تسبق اختيار الفرد لمهنته القادمة، وعليه قد لا يكون اختيار الصحفي لمهنته بالعمل الاعتباطي.. حيث أنه يرى فكرة خلق الكلمات تتجسد في هذا العمل ويتحسسها قريبة جداً من حلمه وبالتالي قد يصبح هذا الأمر مثاليا جداً.. غير أنه قد يتورط الصحفي حينها الصحافة وممراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية وينتهي إبداعياً.. ولكن الغالبية العظمى من الأدباء تعتبر العمل الصحفي، مثله مثل زاد الطريق أو القوت، الأقرب للكسب في وقت لا يكاد فيه الأدب يسد الرمق.. بين الورطتين تبدأ الحكاية على وقع القلم دائماً. صحفي بالنضال..؟؟ هل مارس أدباؤنا الصحافة لأنها تخصصهم الدراسي أم فقط لأنهم حاملو أقلام مبدعة؟؟ في أوساط الرعيل الأول يبدو هذا بسيطا جدا ولا يستدعي الجدل، لاسيما أن رئيسة مجلة الجزائرية، زهور ونيسي، قادمة من التعليم.. طاهر وطار رحمه الله يقول إنه راسل مدارس مصرية تعلم على إثرها الصحافة فأسس أسبوعية الأحرار وأسبوعية الجماهير، وكذا أسبوعية الشعب الثقافي التابعة لجريدة الشعب.. ومالك حداد، رئيس مجلة الآمال، صاحب إجازة في الحقوق.. وغير ذلك كثير قدموا إلى الصحافة بنفس الكتابة الأدبية.. والحقيقة تقول إنهم لم يهزوا عرش الصحافة بل ولم يؤسسوا لمسار صحفي مهني.. فهم الراكضون خلف رؤية الحزب الواحد والتي هي - من أولها إلى آخرها - فكرة نضالية باهتة ليست تعني الانتماء إلى الأدب بقدر الانتماء إلى الخلية الحزبية، أو كما يعرف ''القسمة''، لذا ليست تناقش القسمة.. ولكن النصيب في الصحافة المستقلة يجعل من الأديب عبد العزيز غرمول صاحب أسهم في جريدة يومية. مع الصحافة المستقلة.. الثقافة لا تبيع مع النبض الأول للتعددية السياسية هلّت التعددية الإعلامية وتغير قانون الإعلام، وشكلت بوحاً شرساً توزع عدد من العناوين التي غمرت الساحة من شروقها إلى ما بعد غروبها.. مرورا بكل الأسماء التي تخطر على البال وتصلح لتكون عنوان جريدة.. ولكن من دون ثقافة.. كانت الأخبار الأمنية تكتسح المساحة العقلية والمكانية.. وهنا برز عدد من الصحفيين الشبان الذين تطلعوا يوما إلى الكتابة الأدبية واعتقدوا أنهم بواسطة الصحافة المستقلة ستكون أمامهم الفرصة للبدء في إبداع ما بالموازاة، وهذا لم يحدث لأن الأزمة سرقت العمر وسرقت الإبداع. من جهة أخرى، مسكينة تلك السنوات نمسح فيها كل ذنوبنا وتتحمل منا الكثير فقط، لأننا ضيعنا فيها كل شيء ونعود ونلومها ولا نلوم أنفسنا.. غير أن بعض المبادرات القليلة تكبدت وجع الأزمة إلى حدود المطاردة وحرق البيوت.. فكان البرنامج الثقافي ''مرايا'' لصاحبه رابح فيلالي.. و"مساء الخير ثقافة" لعبد الكريم سكار، كذلك "الشروق الثقافي" التي قدمت أعداداً جادة لجيل جديد لامس الحلم الثقافي بحب أمثال: علال سنفوفة ونجيب انزاز وصغير سلام.. ليغيب هؤلاء جميعاً بعد ذلك، فالثقافة لا تبيع بمنطق الاستقلال التجاري الجزائري. الأقسام الثقافية.. وفترة التربص قد نعترف، ونحن في عيد الصحافة، أنه لا تخصص في الصحافة عندنا.. هناك فقط صحفيّ القسم الوطني الأعلى أجراً والباقي كلهم مشاريع صحفي استبدالا واستعجالا، لذا الأقسام الثقافية في جرائدنا المبجلة لا تضم لا الصحفيين ولا الأدباء ولا الهجين، وإنما هم المتربصون الذين يقطفون الخطى الثقافية في الجزائر ويوزعونها كيفما أرادوا على مناهج معهد الإعلام والصحافة، هو الآخر الذي يشكو حالة صحية متدهورة تكاد تقترب من اليأس الذي أجمع فيه كبارنا على استحداث مدرسة عليا للصحافة علّها تقوم بإنعاش هذا التكوين الحساس.. الأقسام الثقافية مسكينة ومرهونة بالإشهار.. فإذا حضر صاحب الخلاص ''الإشهار'' غابت الصفحة الثقافية، ولا بديل غيرها وكل الصفحات الأخرى، ما عداها مهمة حتى ولو كانت صفحة "استشر طبيبك" وموضوعها الإسهال لدى طفلك.. وما عدا.. وما عدا.. لو أننا نحترم كثيرا الجريدة التي تكون صادقة في هذا الأمر فالإشهار أمر مهم جدا لوقوف الجريدة، ولكن ألا يمكن اعتبار بقاء الصفحة الثقافية أمرا مهما هو الآخر، ولنقل ضرورة حضارية على الجريدة الحفاظ عليها. الملاحق الأدبية.. والبقاء لله الخير شوار.. بشير مفتي.. زهرة ديك.. هم أصحاب ملاحق أدبية أسبوعية، وهم أيضا أصوات إبداعية عكست وجودها الإبداعي وقدمت إلى الصحافة الثقافية بهّم الثقافة ذاتها، لأنه في المعقول أن يشترك الصحفي والأديب في القلم وفي الهّم، فكانت فكرة الملاحق الأدبية خطوة جميلة لتكريس اعتبار ثقافي معين عانى الكثير من التهميش والموت حتى، غير أن الأمر يأخذ منحى الأسف عندما يصرخ أحدهم ويقول:''لو لم أكتب في الصحافة ماذا أفعل هل أبيع الكاوكاو"، وعليه قد يسقط الكثير من أدبائنا في معترك الصحافة فقط من أجل جني المال، فالكتابة عندنا ليست تضمن العيش الكريم، وغالباً تراهم كثيري الاستقالات من مكان إلى مكان. وربما يعني هذا حالة صحية لأن الكاتب الحقيقي ليس يبيع مزاجه، لأن مزاجه لو تعود ضغط العمل الصحفي لأصبح صحفيا وصحفيا جيدا أيضاً، لأن القدرة على الحكي ونسج الحكايات متقدمة الخطوات عنده.. الإعلام المرئي.. والنجومية القاتلة ''خليك بالبيت'' لزاهي وهبي، الذي قرر مؤخرا التوقف، ''ونلتقي'' مع بروين، وحتى مقاماتنا الشاغرة لفرحات جلاب أو سفر في الكلمات، برامج ثقافية يقوم على إعدادها مبدعون ليسوا أصحاب باع كبير في الصحافة، بل وقد لا يتقنون الكثير من تقنيات الصحافة كالعمل الميداني والمونتاج. ورغم أن العمل في الإعلام المرئي بالنسبة للكاتب قد يكون جيداً كونه فرصة تعريفية جيدة لدى الجمهور، إلا أن الواقع يثبت أن متاهة المرئي شديدة التأثير، ولا يخرج منها الكاتب سالماً.. هذا شاعر.. ليس يعرف الالتزام .. ولكنه كاتب له طقوسه الليلية الخاصة.. له عاداته في تقمص حالات معينة.. له مزاج مرتب على أوراقه..لا يفصل بينه وبين القلم غير رغبة قد تأتي تباعاً وقد لا تأتي.. لذا توظيف مبدع في عمل يرتكز على الالتزام والضغط ووقت التصفيف والمونتاج، وما إلى ذلك من محاولات مسك الوقت من الهروب إلى حين تسجيل كامل أحداث النهار، قد يكون بالفعل عملية صعبة.. ولذا النتيجة ستكون كالتالي: -الإحتمال الأول أن يقفز على مزاجه ويواكب حركية العمل الصحفي - الإحتمال الثاني التدحرج على التقاطعات ومن بعد ذلك ترك العمل، وهذا ما يسجله الكثير من الكتاب في مذكراتهم، طبعاً بعض الحالات تتمكن من تحقيق وصفة هجين متداخلة جداً وتتابع خطواتها بذات اللهفة. العزاء.. الهوية في بداية المقال، قلت إن الأيادي - وأقصد أيادي الأديب والصحفي - واحدة كونها تشد على القلم، ولكني في الختام أريد بالفعل الإطناب في هذا الأمر، لأن الحقيقة ليست القلم بمفهومه المادي، وإنما التوقيع. الصحافة في النهاية ليست عملاً هي هوية صاحبها يختم عمله بالتوقيع، بكتابة اسمه، وهذه راحة كبيرة ونرجسية ليست تشترك مع الأديب فحسب بل هي الأدب ذاته، لذا عندما تسرق الصحافة من الأديب مزاجه وكتبه، فالعزاء كبير جداً، فهو يصنع هوية موازية وشهرة موازية، ولكنه فقط طماع ويريد مسك النجوم.