وجع الماضي دخلتُ إلى حلاق الحومة فوجدت شبابا يتجاذبون، لا أقول أطراف الحديث فقط بل أمورا كثيرة، همّتني منها أطراف الأحاديث، قال الرّوجي: كلما أراد الجزائري أن يفخر لجأ إلى ماضيه القريب، ففي الرياضة يذكر ملحمة خيخون، وكأنها الإنجاز الذي ما بعده أو قبله إنجاز، وفي السياسة يذكر بومدين... ومضى يعدد عتبات الفخر بالماضي هروبا من تراجعات الحاضر، قال آخر: كاينة منها يا خو.. الجامعة نتاع بكري خير من الجامعة نتاع اليوم، المدرسة المطاعم القهاوي الأعراس السياحة الزراعة، يا جدك كنا نصدرو القمح لأوروبا، واليوم رجعنا مستوردين، ومنين؟.. من فرنسا اللي كانت البارح غير من المتيجة نتاعنا تعيّش أوروبا كاملة. إذا كان للأمس سلطة على الحاضر أكثر من اللازم باتت كل الأيام أمسا، حيث نجد الشعوب التي تخضع لسلطة الماضي على الحاضر من خلال الشرعيات التاريخية المختلفة لا تستقبل شروق الشمس على أنه يوم جديد يقتضي أفعالا جديدة، بل على أنه يوم مكرّر يستدعي أفعالا مكرّرة، ولا ينفعها مع هذه العقلية أنّ لها مالا وبشرا لأنهما يتحولان إلى كتلتين سلبيتين يشكّلان عائقا في طريق تقدمها، ولو قسنا ما قاله الشباب عند الحلاق على المشهد الثقافي لوجدنا من يقارن الحاضر بالماضي فيفخر بأن تلفزيون وإذاعة الأمس خير من تلفزيون وإذاعات اليوم، وبأن الملاحق الثقافية كالشعب الثقافي، والمجلات الأدبية كمجلة آمال، ضف إليهما الموسيقى والمسرح والسينما والفن التشكيلي كانت أفضلَ حالا وأغزرَ إنتاجا مما هي عليه اليوم، والسؤال الذي طرحه الروجي عند حلاق الحومة مهم جدا: طيب.. ماضينا أقوى من حاضرنا، لكن هل هذا من دواعي الفخر أم الخزي؟ وجع الغيرة كنت في القطار فسمعت فتاتين تتحدثان عن الفنانين وحياتهم المليئة بالمحبة والأحباب. تساءلت إحداهما: شفتي البارح في التلفزيون حسيبة عمروش كيفاش تضحك مع صحابها الفنانين؟ حالة.. احنا عايشين غير مع اللي ما يبغولكش الخير، قلت لها في نفسي لا مباشرة حتى لا أشوّش عليها وهمَها: وحقِّ عينيك الجميلتين اللتين تجعلان الحياة جميلة لو تعرفين جرعة الحقد والبغضاء والكراهية وحب الذات ورغبة التهميش التي بين قطاع واسع من الفنانين والمثقفين الجزائريين لفقأتِ من الدهشة عينيك الجميلتين اللتين تجعلان الحياة جميلة. أحيانا لا أصدّق وأنا أتابع تصرفات بعض المثقفين والفنانين في حق بعضهم، فأحاول أن أجد لهم مبررات لاندهاشي وعدم توقعي بأن ذلك يمكن أن يحصل بين منتجي قيم الجمال والخير والحق )يعنيني المفهوم الإنساني لهذه الثلاثية لا المفهوم المعلّب لبعض الجماعات المعلّبة(، مثلا: كنت في بيروت قبل عامين، وحدث أن زرت صديقا ناشرا في مكتبه فصادف أن هاتفه كاتب جزائري يقول له إن الكاتب الجزائري الذي سمعت أنك ستنشر له رواية مرفوض أمنيا في الجزائر لأنه كان إسلاميا، وبالتالي فأنت لن تستفيد من السوق الجزائرية إذا نشرت روايته لأنها ستمنع من الدخول، ثمّن صديقي الناشر نصيحة صديقه الكاتب الجزائري واصفا إياه بالمستشار النزيه، فنهضت من الكرسي وهَمَمْتُ بالخروج، إلى أين؟ قلت: كنت أعتقد أن مفهوم النزاهة في بيروت إنساني بحيث لا يطلق على الغشّاشين، لن أبقى في مجلس تهان فيه النزاهة. هذا الرجل غشّك فلفّق تهمة لكاتب مثله هو بريء منها، مستغلا ثقتك فيه، حتى يحرمه من النشر في لبنان حيث فرص نجاحه قائمة جدا، قال: هل تعرفه؟، قلت: أعرفه نفسا وحسا ونصا، كما أعرف أنني في ضيافتك. وجع الأمية من عاداتي أن أنام باكرا لأصحو للقراءة أو الكتابة فجرا، لتنفس الفجر سرّ يفتّق العقول والأرواح، وقد أفادتني هذه العادة كثيرا، لكن ما أن تشرق الشمس حتى تطلع أصوات عالية تدعو إلى التبرّع بالخبز اليابس، إنها لأطفال وصبايا في سن التمدرس ينتمون إلى عائلات جاءت من التل إلى محيط الجزائر العاصمة لحراسة المزارع والفيرمات، إنهم يسبّبون لي يوميا غصّة لأنهم يشوّشون على لحظة القراءة أو الكتابة عندي، ولأنهم محرومون من حق الذهاب إلى المدرسة، أستطيع أن أتحمّل ألا يجد طفل ما يأكل أو ما يلبس، لكنني لا أستطيع أن أتحمّل أن يحرم من الذهاب إلى المدرسة. سألت أحدهم يوما: علاش ما تروحش تقرا؟ فأجابني من غير أن يرفع عينيه ويديه عن كيس الخبز اليابس: واللي قراو واش دارو؟ أعتقد أنْ ليس هناك عقلية تنخر المجتمع الجزائري من الداخل فتفعلَ فيه أخطرَ ممّا فعله الاستعمار أو الإرهاب أو تعسفات السياسة من عقلية »اللي قراو واش دارو؟« لأنها تؤسس لأمية المستقبل، كما أسّست لمادية الحاضر، علما أن هناك سؤالا مسكوتا عنه، هو سؤال عشرات الآلاف من المتسربين مدرسيا كل عام. وقياسا على »اللي قراو واش دارو؟« ظهرت عبارات خطيرة أخرى من قبيل »اللي كتبو واش دارو؟«، و»اللي عملو الفن واش داروا«، والسؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعا: فعلا.. واش درنا لمواجهة مستقبل يابس تؤسس له هذه العقلية؟