حينما تصغو لراو، تسمع لحاك، وتهتم بقاص عما يقع في المجتمع من جرائم وانحرافات، من مشاكل وخصومات لا تعد ولا تحصى، تعددت أنواعها وتكررت بعمد وبقصد وبإصرار وترصد، تسكت مكتئبا واجما حائرا. تكذب نفسك إن كَذَبْتَ، وتملأ نفسك هموما وهواجس حينما تضيف ما علمت ما تعلم، تحبس أنفاسك يتقطع قلبك يضيق صدرك وينقبض حالك، تتألم، تتوجع، تصاب بالدوران، تتحسر لما يجري حولك من مآسي، ولما يتعرض له المجتمع من جلد للذات، بسبب تصرفات وسلوكات وأفعال شواذ من الشذاذ، كثيرا ما يعكرون صفو الناس ويكدرون عيشهم، وهم يبيحون أموالهم ويستحيون أعراضهم ويسطون على أملاكهم ظلما وعدوانا أمام الملأ وعلى مرأى ومسمع من الجميع. تشمئز تغضب، تحزن، تبتئس، ما الذي أصاب العباد في هذه البلاد، تلعن الجميع وكأنك صاحب علم ودراية بشأن الجميع، ترغو وتزبد وكأنك ولي أمر الجميع، ومدبر أحوال الجميع. يركبك الغرور، تسكن بين جانبيك النفس الأمارة بالسوء، فتختم غشاوة سميكة على قلبك، وعلى سمعك وعلى بصرك، فتسقط فريسة أوهامك التي تحملك على كف عفريت وتنسيك نفسك الراضية المرضية التي إن كنت تحملها تكون من السابقين بالخيرات، فتعلم علم اليقين أنك عضو في جسد متكامل المهام والواجبات والحقوق يتألم جميعه من الآلام والأوجاع التي تصيب أي طرف فيه، ويسعد كله بالأمن والعافية والشفاء والاستقرار. هنا تشعر أبا كنت أم أخا، أُما كنت أم أختا، حاكمًا أو محكومًا، وليا أو مَولى، أنه من غير الممكن الفرار أو التنصل من المجموعة التي هي قدر محتوم لا تستطيع أن تعيش في معزل عنها ولن ينفع الهروب منها إلا إليها، وما أنت مهما كنت أنت، إلا إنسانا مدني بالطبع يغلب الطبع فيك التطبع. الآن تحس أنك واحد من هؤلاء وأولئك، وأن مسؤولية ملزمة لك أن تأخذ بيد من هو في حاجة إليك من هذه الجماعة، وإن كان مجرما أو منحرفا لا يعود إليك في الوطن والهوية فقط، إنما أيضا في الرحم وفي المواطنة، عليك أن تصلح أمره وتجبر كسره بما يناسب علته من تصحيح ومن جبر وإصلاح، لا تحتقره لا تخزيه لا تؤذيه، لا تسبه، لا تشتمه، ولا تهنه لأن من يهن يسهل الهوان عليه. عد إليه بشمائل الأخلاق، وتوجه إليه بالمعونة والمساعدة والمحبة، إنصح أو حتى عزر والديه، ذويه، مؤسساته التربوية والتعليمية، لأن تلك هي بؤر التوتر وبيوت الداء ومعاقل الوباء إن تخلت عن تحمل مسؤوليتها التي أنيطت بها كاملة الجوانب والمرامي النبيلة، والأهداف المستقيمة، تجاه من ولد صفحة بيضاء، ووالداه إن شاءا يهودانه، وإن شاءا ينصرانه، بمعنى أنه ولد مسلما، أي سالما من كل الأدران والعيوب والشوائب، لكن يكسبه محيطه ما في محيطه. إن مسؤولية الإجرام والإنحراف في المجتمع معهودة ومعروفة ومحددة المعالم، ومهام من يجب أن يسهروا على تربية الناشئة التي هي فصيلات تثمر وفق نوع المغروسات وشتان بين بذور الحنظل ورحيق قصب السكر، وبينما يجبل على الجود به نبات الشوك، وما تهديه الأزهار من نعومة في الملمس ومما ترسله نحونا من طيب العطير عند كل عملية تنفس. هكذا المجتمع كالطفل غضا نقيا طاهرا، وما يفتأ يأخذ حجم المهد الذي يوضع فيه ويسلك السبيل الذي رسم له من قبل، إنه لا ذنب عليه، إنما الذنب كل الذنب على من تولى صناعة المهد وحدد معالم السبيل. إذا ما سافرت وفي الأسفار جم من الفوائد، وكم من المعارف والمقاربات والمقارنات، وحرصت أن لا تعود برأي إلا ما يرى لك وتخرج من دوائر الواجهات وتتغلغل ببصرك وبصيرتك في ما ورائيات حياة الناس وخلفيات تبادل طرق العيش ووسائله، ونزعت المظاهر المشينة للبيئة والتسيب المفرط فيها دون مبرر أوعذر من حسابتك الوطنية، فإنك تحمد الله تعالى على أنك تنتمي إلى هذا الوطن العالي، الغالي الهمة والهامة، الذي لا يخشى لومة لائم في قول الحق، كل ما كان في مقام يرى أنه يتوجب فيه الصدح بالحق صونا للكرامة وتشبثا بالعزة، ومناصرة لمظلوم، أو إزالة غشاوة حيف أو غمامة زيف. وتحمد الله وتشكره أنك من طينة هذا الشعب المتميز بخصائصه وخصاله في الذود على الحياض ورفع الضيم والإجحاف، صاحب الروح السخية واليد الندية تآزرا وتضامنا وتكاتفا ليس مع بعضه بعضا فحسب، إنما حتى بالنسبة للغير، إذ أنه، كلما رأى طلائع واجب تلوح في الأفق تدعوه للتدخل إلا وفعل، دون أن ينتظر جزاءا أو شكورا من أحد. إنما جزاؤه وشكوره يراه في أداء واجبه كلما ناداه واجب النداء وواجب الهمة الإنسانية بما في ذلك الحفاظ على كرم الأموات والترحم عليهم وحفظ مقامهم كل حسب مقامه، بما في ذلك، بذل الجهد للتصدق عليهم وإن كانوا من غير ذوي الأرحام والأصول والفروع. إني أعلم علم اليقين أن عائلة جزائرية عادية دأبت على إطعام الطعام بما لذ وطاب بما يليق بعلو شأن الأشخاص المقصودين بالصدقة الجارية. إن هؤلاء الأشخاص المتوفون الذين تتكرم عليهم أسرة متواضعة هم رؤساء الجمهورية الجزائرية الذين لم تتملق لهم في حياتهم ولا هم يعرفون عنها شيئا وهم سادة يحكمون رقاب الناس وشؤون الناس. ألم أكن قد سقت أنموذجا حيا فريدا من نوعه، لا يمكن أن يكون في مجتمع آخر غير المجتمع الجزائري على الإطلاق، مثل هذا الكرم الحاتمي والجود الجزائري ونبل عباد الله الصالحين وفاء وتكريما لأرواح رجال خدموا البلاد والعباد. راعت تلك الخدمة الإنسانية- الإنسانية، وبذلت ذلك الجهد الخيري- الخيري عائلة خيرية جزائرية قحة، فأعطتهم ما لم يعطه لهم غيرها، بما في ذلك ورثتهم الذين قد يختصمون على ما خلفوا من تركة، منحتهم زادا من الصدقة الجارية لا ينضب ولا يفنى ولا يضمحل، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. شكرا آل بلقاسم وبارك الله فيكم وكثر من أمثالكم، وهنيئا لكم بصنيعكم في الدنيا وبما تجدوه في الآخرة، أيها النشامى يا أحفاد الشهداء الأبرار يا أهل الحاج علي... !؟