سيعقد حزب جبهة التحرير الوطني دورة عادية للجنة المركزية في نهاية هذا الشهر، وإذا كان هذا الحدث عاديا وطبيعيا وإجراء تنظيميا، فإنه في هذه المرة يكتسي أهمية بالغة بالنظر إلى التحديات والرهانات التي تعلق عليها لتحديد مصير ومستقبل الحزب على الأقل في المرحلة الراهنة وذلك بسبب حالة التوتر والاحتقان التي شهدها الحزب منذ شهور. خلافات وهمية إن ما يعيشه الحزب من خلافات لم تعد خافية على أحد، هو أمر يكاد يكون عاديا وقد سبق للحزب أن عرفه وفي مراحل أصعب من المرحلة هذه، وفي كل مرة كان الاجماع يتحقق حول خيار أفضلية وأولوية الحزب على الأشخاص. صحيح أن الهزات السابقة التي عرفها الحزب كانت مرتبطة بتطورات الساحة السياسية أكثر منها حركات إصلاح ذاتي، إلا أنها استطاعت أن تصون سيادة ووحدة حزب جبهة التحرير الوطني بالرغم من بعض الانحرافات والخيارات الني كلفت الحزب بعضا من انسجامه المبدئي وجلبت له بعض الانتقادات. لكن النتائج المحققة والعودة القوية للحزب في كل الاستحقاقات المنظمة إلى غاية الآن جعلت مساحة المعارضين تضيق مع كل فوز وكل مكسب . الآن والحزب يقف على عتبة مرحلة جديدة ورهانات لم تتضح بعد يبدو خيار الوحدة والاحتكام للمؤسسات الشرعية الطريق الوحيد لضمان وحدة واستمرار الحزب كقوة سياسية أولى في البلاد. من الصعب حصر حقيقة ما يشهده الحزب في مجرد مناوشات كلامية بين مسؤولي الحزب، كما نتابع من خلال ما تنشره الجرائد الوطنية يوميا. هذا في حد ذاته يدل على أن ما يشهده الحزب حاليا ليس مشكلا سياسيا ولا اختلافا في وجهات النظر حول قضايا التسيير والتوجيه وتحديد الاستراتيجيات. إن كل ما نشر لحد الساعة لا يتجاوز الاتهامات غير المحددة المعالم مما لخص ''أزمة الافلان'' إذا كان بإمكاننا تسميتها كذلك، في مسعى تحضير الحزب للمرحلة المقبلة والتي يحددها معلمان رئيسيان وهما: التعديل الدستوري والانتخابات الرئاسية؟ إن السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو في أي اتجاه يراد للأفلان أن يسير ويتوجه وما الذي أزعج الواقفين وراء ما يحدث داخل الحزب من مواقف وتصرفات القيادة الراهنة التي يمثلها الأمين العام السيد عبد العزيز بلخادم؟ هل هناك عدم رضا حول خيارات الأمين العام مثل دعمه المطلق والصريح للرئيس عبد العزيز بوتفليقة خاصة فيما يتعلق بتأييد ترشحه لعهدة رابعة؟ وهل خصوم الأمين العام يفكرون غير ذلك؟ الحقيقة أن هؤلاء لم يعبروا لحد الان عن معارضتهم للتوجهات السياسية الكبرى للحزب كما حددها الأمين العام وأغلب الظن أنهم سيكونون من أول المدافعين عن العهدة الرابعة لم نسمع من هؤلاء أية انتقادات بشأن بعض المواقف السياسية، مما يعني أن المشكل ليس الاختلاف حول هكذا مسائل من شأنها الإضرار بمصلحة الحزب وسمعته، إذن أين يكمن المشكل هل يتعلق فعلا برغبة هؤلاء في إصلاح وتقويم مسيرة الحزب، أم أن الأمر مرتبط بأجندة خارجية تندرج ضمن التحضير للخط السياسي لجزائر ما بعد 2014 . المسألة كما تبدو في غاية الغموض والتعقيد مما يستوجب تعميق النقاش والحوار داخل مؤسسات الحزب وإشراك القواعد النضالية في تحديد المسار المقبل للحزب لتفادي إضعافه وتقسيمه. لذا فإن الدورة المقبلة للجنة المركزية تشكل الفضاء المثالي لمثل هذا النقاش، وهناك آليات محددة لضمان عدم خروج أشغال الدورة عن إطارها القانوني والسياسي والحزبي، وأولى هذه الاليات هو مبدأ الأغلبية الذي يحسم كل الخلافات والخيارات، بعيدا عن الانتقام والكولسة والفكر الانقلابي. الكلمة للصندوق لقد استطاع الأمين العام للحزب حتى الآن فرض احترام شروط العمل القانوني والانضباط الحزبي، بحيث حرص على أن يكون الاحتكام لمؤسسة سيادية داخل الحزب وهي اللجنة المركزية المسؤولة بين مؤتمرين، حتى يكون القرار المتخذ بشأن المواضيع المتنازع عليها قرارا ديمقراطيا لا يعرض مصير ووحدة الأفلان للخطر. هذا ما أكده الأمين العام للحزب السيد عبد العزيز بلخادم في كل خرجاته الصحفية وآخرها الحديث الذي أدلى به لقناة الشروق تي في، بحيث تجنب التصعيد وعرض الموضوع بهدوء على أمل أن يقتنع الجميع بأن مصلحة الحزب فوق كل الاعتبارات السياسية والشخصية. لقد أوضح بلخادم بأن ما يعرف بالحركة التقويمية التي يقودها بعض الوزراء بعيدا عن القواعد النضالية للحزب، لم تطرح بدائل سياسية حقيقية كما أنها لم تستطع لحد الان أن تهز أركانه أو تجر المناضلين إلى حركة احتجاجية واسعة مفضلا ترك الفصل في هذا الموضوع لأعضاء اللجنة المركزية، مؤكدا بأنه سيحترم أي قرار يصدر عنها. من ناحية أخرى يسعى المناوئون للأمين العام إلى محاولة التأثير في اتجاهات التصويت داخل اللجنة المركزية من خلال السعي إلى استمالة بعض أعضائها حتى يكتمل النصاب. للإشارة لقد سبق لهؤلاء مرارا أن أعلنوا عن توفرهم على مئات التوقعات للإطاحة بالأمين العام، ولكن ولحد الساعة لم تستعمل هذه القوة بأي شكل من الأشكال مما جعل الأمين العام يشكك في الأرقام المسربة للصحافة بخصوص عدد الموقعين من أعضاء اللجنة المركزية. ما يؤكد هذه الفرضية هو سعي ''التقويميين'' إلى محاولة التدخل بشكل مباشر في عملية التصويت على الثقة في الأمين العام إذا ما أدرجت حقا في جدول الأعمال وهذا ما جعلهم يطالبون بمقر آخر غير ذلك المعتاد. إن كل ما يأمله المناضلون والمتعاطفون مع هذا الحزب الكبير هو أن لا تتكرر أحداث دورة جوان التي أساءت كثيرا لسمعة حزب في أهمية وتاريخ الأفلان بحيث تناقلت الفضائيات صور العراك والشتائم التي تخللت تلك الدورة. إن الاختلافات والاضطرابات داخل الأحزاب أمر طبيعي، بل صحي لأنه يسمح ببروز الأفكار الجديدة والاقتراحات البديلة شريطة أن يكون الهدف من ذلك تقويم أداء الحزب وليس الاعتبارات الشخصية والاجندات الخارجية وحتى الداخلية، التي يحركها أشخاص لا همّ لهم سوى تمرير مشاريعهم الغامضة دون مراعاة مصلحة الجزائر. مشكل أشخاص أم مشكل مشروع؟ هناك حقائق لا يمكن تجاهلها ونحن بصدد الحديث عما يشهده الحزب من توتر، وما قد تسفر عنه هذه الدورة العادية للجنة المركزية من قرارات يتمنى الجميع أن تراعي مصلحة الحزب أولا قبل مصلحة الأشخاص. إننا لا نذيع سرا إذا ما قلنا بأن الأفلان يحتاج فعلا إلى عملية تقويم أعمق وأبعد وأصدق يلتف حولها الجميع موالين ومعارضين. هناك رغبة أكيدة لدى المناضلين ولدى الشعب الجزائري في أن يعود الأفلان إلى مجده السابق الذي تأثر بفعل بعض القرارات وأيضا بعض الرجال والممارسات . إنه لمن المؤسف أن تطغى خلافات أعضاء قيادته على التحديات الكبرى التي تواجهها الجزائر بحيث لم نعد نسمع من يدافع عن هوية الجزائر أو يرافع من أجل استقلال قرارها بشكل حقيقي أو يعمل من أجل عزتها والدفاع عن المبادىء الحقيقية لحزب يعتبر نفسه الوريث الشرعي لجبهة التحرير الوطني التي كانت تمثل مشروع مجتمع وبرنامج تنمية وميثاق هوية للشعب الجزائري . من حقنا أن نتساءل ونحن نعيش هذا المستوى من النقاش وصراع الديكة: من أوصل الأفلان إلى هذا المستوى وكيف أصبح الكثير من قادته يسكتون عن تجاوزات واضحة في سلوكيات فاضح؟ ولماذا خفت الصوت الثوري في خطاباته إلى هذا الحد؟ وماذا عن ثوابت الحزب التي تمكنه من أن يكون حزبا رائدا بحق؟ وهل يبقى الحزب وفيا لرسالة الشهداء؟ صحيح أن الأفلان هو حزب سياسي يسعى إلى الوصول إلى السلطة والبقاء فيها أطول مدة ممكنة، وصحيح أيضا أن السياسة تقتضي أحيانا بعض الممارسات التي قد تبدو لدى العوام غير منطقية ولكن إذا كان هذا الكلام ينطبق على باقي الأحزاب فإن الأفلان تحكمه المسؤولية التاريخية التي ينبغي أن تكون حاضرة في كل مراحل عمله وأدائه لأنها تمثل المرجعية الحقيقية له . من حقنا أن ندعو إلى تقويم الأفلان بعد أن رأينا تقاعسه الواضح عن الدفاع عن ثوابت الأمة، خاصة اللغة العربية التي تتعرض لهوان غير مسبوق في تاريخها، ومن حقنا أيضا أن نحلم بأفلان يعمل ليل نهار من أجل عزة وكرامة الجزائر وليس من أجل مصالح الأشخاص. لقد آن الأوان لكي يعود الحزب إلى عقيدته السياسية القائمة على الصرامة في الدفاع عن مصالح الجزائر قبل أي شيء آخر والوفاء لرسالة الشهداء من خلال عدم التنازل عن مسعى تجريم الاستعمار وعدم التسامح مع تجاوزات اليمين الفرنسي المتكررة، بل من واجب الأفلان أن تكون مبادىء رسالة نوفمبر هي الإطار العام لكل برنامج يصدر عنه أو موقف يتخذه. إن حزب جبهة التحرير الوطني يقف اليوم فعلا أمام منعطف خطير وحاسم وهو الخيار ما بين الاستمرار في التراجع عن القيم والمبادىء والرضى بدور ثانوي في الواجهة السياسية أو قيادة عملية التطوير والدمقرطة من خلال العودة السريعة إلى تطبيق المبادىء التي جعلت منه ذات يوم اسما لامعا في العالم . هذه المبادىء تتلخص في العودة إلى تفضيل قيمة الكفاءة والعمل والنزاهة والديمقراطية في اتخاذ القرارات وتعيين الأشخاص . إن وجود بعض الأسماء المحسوبة على الأفلان في مؤسسات الدولة وهيئاتها أساء كثيرا لحزب يحمل على عاتقه شاء ذلك أو أبى مسؤولية تاريخية عظيمة لذا فإن الفصل في هذه الدورة لا ينبغي أن يكون بين طرفين متصارعين من أجل التموقع والحفاظ على المناصب، بل يجب أن يكون من أجل هدف أسمى وهو الحفاظ على وحدة الحزب ومكانته الريادية في الحياة السياسية .