نشرت إحدى المجلات الأجنبية استطلاعا شمل عديد الشخصيات السياسية، من رؤساء أحزاب إلى نواب ووزراء، وكان السؤال المطروح يقول: لماذا يمارسون السياسة؟ تقول إحدى الوزيرات: ''أحتفظ في ذاكرتي بتحذير والدي: السياسة وهم، لا ينبغي الارتباط بالمجد الذي تأتي به، لأن ذلك قد ينسيك أهدافك ويفقدك صدقك..''. ويقول وزير آخر:س وجدت في السياسة معنى لحياتي، أشعر أني مفيد وأحمل أملا..''في حين تقول رئيسة إحدى البلديات: ''وجدت نفسي أمارس السياسة لأني أشعر بعمق بقدراتي على تغيير الأشياء وبناء حياة تجمعناس، أما رئيس أحد الأحزاب فيقول: ''القيمة الكبرى في الممارسة السياسية هي أن تكون محبوبا، تعمل من أجل الآخرين، الذين قد لا تعرفهم، قبل التفكير في الأقربين..''. هكذا يرون السياسة وهكذا يمارسونها، فهي تعني عندهم العمل من أجل الآخرين وعدم التمسك بالمجد الذي قد تأتي به، إنه الدرس المفيد الذي يجب أن تعيه كل الأحزاب وكل الشخصيات التي تمتهن السياسة. هذه ملاحظات نسوقها في ظرف يتميز بجدل كبير حول الاستحقاقات المقبلة، إذ أن الملاحظ في المشهد الراهن هو أن الأحزاب والنخب ما تزال تشغل نفسها بمسائل ليست في صلب اهتمام الرأي العام، وهنا تبرز مشكلة الأحزاب السياسية في أنها تخرج نفسها من الشارع وتهتم أكثر بحوارات فوقية واتهامات متبادلة، ومعنى هذا، أنها تؤكد ضمنا للمواطنين أنها بعيدة عنهم وأنها عبارة عن أجهزة حزبية لا تصلح إلا لإصدار البيانات والتصريحات، لأنها في الأصل عاجزة عن الوصول إلى الشعب وملازمته والتلاحم معه بصفة منتظمة ودائمة. إن تاريخ الرئاسيات المقبلة لا تفصلنا عنه سوى عدة شهور، لكن إلى حد الآن لا يعرف الرأي العام، من هم المرشحون لهذه الانتخابات، في حين أن هذا الاستحقاق السياسي الهام يقتضي من كل المعنيين به »إظهار وجوههم« إلى الناس والنزول إلى الشارع، وليس انتظار اللحظة الأخيرة أو مخاطبة الناس من وراء حجاب. ومن الطبيعي أن تلجأ الأحزاب إلى عقد تحالفات وأن تساند المرشح الذي تراه مناسبا لها، إلا أن الغريب هو أن بعض الطروحات، في الوقت الذي تدعو إلى التحالف والبحث عن زمرشح التوافق'' أو ''مرشح الإجماع'' حسب ما تسميه بعض المبادرات التي تطلق هنا وهناك. في هذا الوقت، نجد هذه الأطراف تحرم على غيرها ما تجيزه لنفسها، فحين يفتح الأفلان قنوات الحوار مع أحزاب أخرى، فذلك يعني في منظور المعارضة أن النظام يسعى إلى '' غلق اللعبة'' و''الاستيلاء على السلطة'' وما إلى ذلك من تعابير جاهزة. إن النقاش حول الرئاسيات المقبلة مطلوب من كل الأطراف، لكن الملاحظ هو أن الجدل العام في المشهد الراهن هو تجسيد تام لأزمة عدم الثقة ليس فقط بين الموالاة والتشكيلات السياسية والثقافية التي تختلف مع توجهات النظام، ولكن أيضا في أوساط المعارضة نفسها وبين قياداتها ومتصدري الصفوف في الدفاع عنها، وهذا بسبب مجموعة أمراض منها، داء الذاتية و''الزعاماتية'' و''الشخصنة'' وافتقاد المشروع السياسي والمبادرات البديلة. ذلك أحد أوجه القصور التي يتسم بها الجدل الراهن حول الانتخابات الرئاسية المقبلة، وبالرغم من سيل الكلام المنهمر، من تلك ''المجموعة'' التي سمت نفسها ''أحزاب الذاكرة والسيادة'' أو''مجموعة 14 حزبا'' ، إلا أنها تفتقد لرؤية واضحة وتبدو وكأنها تبحث عن وظيفة وأن ممارسة السياسة في مفهومها ليس أكثر من إصدار بيانات تنديد واتهام، في محاولة يائسة لتقمص دور الضحية. إن من حق كل من له رغبة في الترشح ومن حق الطبقة السياسية وكذا الإعلام والنخبة، الخوض في مسألة الرئاسيات، من حقهم بل من واجبهم إثراء النقاش وطرح البدائل وتقديم التصورات الكفيلة بإنجاح هذا الموعد الهام.كل ذلك مطلوب، لأنه يشكل الضمانة الأساسية لجعل الانتخابات الرئاسية تعددية ومفتوحة وتحظى بالصدقية، من خلال إقبال المواطنين على صناديق الاقتراع وانتخاب من يرونه أهلا لمنصب القاضي الأول في البلاد، لكن المحظور هو التستر وراء هذا المطلب أو ذاك في محاولة لممارسة الإقصاء باسم نزاهة الانتخابات. إن الانتخابات المفتوحة تعني الحق في الترشح لكل من أراد خوض السباق، وعلى غربال الشعب أن يفرز من يشاء، باعتباره صاحب السلطة وإرادته هي الفيصل. لذلك كله، فإن دعوة بعض الأصوات إلى تأجيل تعديل الدستور إلى ما بعد الرئاسيات المقبلة، ترتكز على مبررات تبدو هشة وغير مؤسسة دستوريا وقانونيا، ذلك أن صاحب المبادرة بالتعديل هو رئيس الجمهورية، وهذا لا يعني أن له الحق في الاستبداد بهذه الصلاحية، بل يجبره الدستور على إقرار التعديل من البرلمان أو الشعب أو كلاهما معا، وهذه الصلاحية مطلقة من حيث الزمان، أي أنها غير محددة بفترة زمنية معينة، بل لرئيس الجمهورية أن يمارس هذا الحق في الوقت الذي يريد، وله سلطة التقدير في تعديل هذه المادة أو تلك من الدستور، ما عدا المواد المحصنة والتي تنص عليها المادة .176 ومن هذا المنطلق فإن المطالبة بتأجيل تعديل الدستور إلى ما بعد الرئاسيات، هو اعتداء صريح على الدستور، لأنه يصادر الحق من صاحبه وينزع عنه صلاحياته الدستورية. لذلك فإن الحديث عن ضرورة إرجاء تعديل الدستور إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية، هو محاولة للهروب من النقاش الحقيقي الذي تقتضيه مثل هذه القضايا الجوهرية والحساسة. إن ممارسة السياسة تقتضي النقاش في صلب القضايا وليس الهروب إلى الهوامش، فالأصوات التي تنادي ب''حركة وطنية'' لإنقاذ الجزائر وفرض مرشح ''إجماع وطني'' للرئاسيات المقبلة، كان الأجدر بها، أن تناضل من أجل انتخابات ديمقراطية مفتوحة، تسمح بالتداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع. ألم يكن الأجدر فتح نقاش واسع ومعمق حول ضمانات نزاهة الرئاسيات المقبلة عوض التركيز حول التمديد أو التجديد لرئيس الجمهورية، أليس من المفيد طرح البدائل والتصورات حول تعديل الدستور والخوض في المسائل المرتبطة بهذا التعديل، كاستحداث منصب نائب الرئيس والعهدة الرئاسية وطبيعة النظام ودور الهيئة التشريعية، وما إلى ذلك من قضايا تقتضي النقاش من الطبقة السياسية ومن أهل الاختصاص. إن على المعارضة، وذلك حقها المشروع، أن تعلن عن مواقفها، وتعارض من تشاء، وأن ترشح من تراه مناسبا وأن تتجند لفرض نزاهة الانتخابات وأن تبحث عن التأييد الشعبي لطروحاتها، لكن ليس من حقها، تحت هذا العنوان أو ذاك، قطع الطريق أمام مترشحين آخرين، سواء كان رئيس الجمهورية الحالي أو غيره، لأن ذلك يعني أن هذه المعارضة ضعيفة وحائرة، تتعلق بالهوامش ولا تملك البدائل المشروعة والمقنعة وهي تمارس السياسة خارج الموضوع. [email protected]