شخصيا لا أحب الحليب، ومثل أفراد عائلتي الصغيرة جدا لا أشربه، لذلك لا أشتريه حتى أني لم أحسّ بندرته في السوق مؤخرا، ولولا فضولي الذي دفعني إلى أن أسأل عن طبيعة الطوابير التي بت أراها أمام المحلات الموزعة له لما عرفت أن هناك أزمة حليب في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، خاصة أني لم أعد أقرأ الجرائد عمومية كانت أم خاصة، بسبب أن العمومية منها أمست خاصة من حيث أنها تسيّر بمزاج المدراء الذين يتصرفون على أساس أنها ملكية شخصية فيوظفون فيها من أرادوا ويستبعدون من أرادوا، والخاصة منها أمست في حكم العمومية بحيث تقف كقارئ ينفق عليها من ماله الخاص على تصرفات لم تتعود عليها إلا في الصحافة العمومية من قبيل أن القائم على هذه الجريدة الخاصة أو تلك يخصص الصفحة الأولى لكتابه أو نشاطه بعنوان بارز مع عناوين فرعية على أساس أن كتابه أو نشاطه حدث عظيم على غرار خلوّ الأسواق من الحليب مثلا، لذلك كله لم أنتبه إلى أن هناك إنسانا جزائريا ظلّ يعاني منذ شهر تقريبا انسحابَ مادة ضرورية من مائدته، وإن حضرتْ فبشق الكيس والنفس، وهنا لا تلموني على تحريف العبارة المتوارثة بإضافة الكيس للنفس، لأنه أعني الكيس فرض نفسه فباتت له أهمية لا تقل عن أهمية النفس، حتى أنه باتÅÅجائزا لنا أن نقول إن من تدبر كيس حليب فقد أحيا نفسا، أحيانا تقفز بعض الأمور التي كنا نراها تافهة إلى مستوى من الأهمية والاهتمام لا يخطر على البال، فضلات الطيور مثلا، كانت في المرحلة التي انتشر فيها فيروس أنفلونزا الطيور أكثر تناولا بالحديث والحذر والحيرة إلى آخر الحاءات من القمح الذي هو زريعة الروح أصلا، واليوم بات كيس الحليب يحظى بالاهتمام نفسه من أي كيس آخر بما في ذلك كيس السميد، ومن المعروف أن لكل أزمة إنتاجها من القيم والسلوكات والظواهر فيها السلبي وفيها الإيجابي، لذلك فقد رحت بعد أن اكتشفت أن هناك أزمة حقيقية في مادة الحليب المعروف علميا بأنه غذاء كامل، وجزائريا في بعض المستويات الشعبية بأنه غذاء وحيد والفرق واضح طبعا أتأمل بعض السلوكات التي أنتجتها هذه الأزمة التي تزامنت مع خرجات السيد الوزير الأول إلى الولايات، وهي خرجات يمكن أن نجعل لها عنوانا كبيرا هو: بلادنا بخير وعلينا أن نحمد السماء عليه، وطبعا هو العنوان الذي اعتمدته تلفزتنا الموقرة في نشراتها التي غيرت ديكورها لكنها لم تغير تفكيرها، وما ينبغي لها أن تفعل ذلك، وأطرف هذه السلوكات الناتجة عن أزمة الحليب أن المساجد الجزائرية لم تعد تعان خلو صفوفها من المصلين أثناء صلاة الفجر، حتى أن إماما في شرق العاصمة خصص خطبة إحدى الجمعات تثمينا لهذا الإقبال الذي راح يعطيه أكثر من دلالة منها أن الجزائري بدأ يتصالح مع ربه بعد أن تصالح مع ذاته، والأكيد أضاف الإمام الذكي أن الإنسان حين يصالح ذاته يصل بالضرورة إلى المصالحة مع الذات العليا التي ترجع إليها الأمور، فقام شاب يبدو أنه صريح ولا يحب الغباء قائلا للإمام: يا شيخ.. هؤلاء الذين باتوا يأتون إلى صلاة الفجر بكّروا أصلا من أجل طوابير الحليب، فلم يجد الإمام ما يقول للشاب وقد نسف خطبته من أساسها سوى: اخرجْ من المسجد.. فقد بطلتْ جمعتك لأنك تكلمت أثناء إلقاء الخطبة، ومن تكلم فقد لغا ومن لغا فلا صلاة له، فخرج الشاب وهو يصيح: ما الفرق إذن بينك وبين رئيس الحكومة وهو يجيب على تدخلات نواب البرلمان؟ أين سنذهب نحن الغلابى وقد أصبح للفساد من يبرره باسم الأرض والسماء معا؟ لا أحد ينكر روح الدعابة التي بات يتمتع بها الشاب الجزائري اليوم، رغم أنه خرّيج زمن العنف، والأمر يحتاج إلى دراسة معمقة في هذا الخصوص، وقد حضرتُ مجلسا لمجموعة من الشباب لعب فيه أحدهم دور الصحفي الذي ينشط حصة من يربح المليون بحيث يطرح سؤالا على المشاركين والذي يجيب صحيحا يتحصل على كيس حليب من غير طابور أو وسيط، كان عنوان الحصة: من يربح كيس الحليب؟ وقد كان السؤال المعجز: ما لون الحليب؟ ولأن المشاركين جزائريون فقد مثلوا أنهم نسوا لون الحليب لطول فترة ندرته من السوق، قال الأول: أظن أن لونه أحمر قياسا على لون الدم لأنني ذاك النهار سقطت في الطابور فسالت ركبتي بالدماء، وقال الثاني: أفضل الاستعانة بصديقي عن طريق الهاتف.. ألو.. موح.. معك حصة من يربح صاشي الحليب، والسؤال هو ما لون الحليب؟ تلعثم موح في الهاتف وقال لصاحبه: تعلم أنني لم أشارك في الثورة التحريرية حيث كان الحليب متوفرا للمجاهدين في الجبال، أما اليوم حيث أعيش فهو مقطوع منذ مدة وأنا لا أذكر لونه، فلم يجد الشاب المشارك بدا من المغامرة بأن اختار من الألوان المقترحة عليه من طرف المنشط اللونَ الأسود.