على امتداد حوالي خمسين عاما عرفتُ نماذج عديدة من الناس، بعضهم رغم الزمالة الطويلة في الثانوية و الجامعة و الصحافة والسياسة و البرلمان و في الحياة العامة مع أبسط الناس أصبح نسيا منسيا لا تواصل معه و لا اتصال به بعد فترة قصيرة من انقضاء فترة الزمالة . بعضهم كان التواصل معه و الاتصال به يتم بشكل شبه يومي عندما كانت لنا مسؤوليات هنا أو هناك ، و كان الهاتف الثابت و النقال عندما دخل الخدمة في الجزائر منذ حوالي عشريتين من الزمن الوسيلة السريعة والناجعة بل و الدائمة للتواصل مع بعض هؤلاء . شخصيا لا أعتقد و قد يشهد البعض على ذلك أنني من الصنف الذي ينسى أصدقاءه أو يتنكر للعشرة والصداقة والحب الصافي الخالي من شوائب المادة وتقلبات الزمن بمجرد انتهاء مسؤوليات هذا المسؤول أو إحالة الآخر على التقاعد ،بل كنت أحرص أشد الحرص على التواصل مع بعض الأصدقاء بما فيهم بعض المسؤولين بمجرد إحالتهم على التقاعد أو تهميشهم من مواقع المسؤولية . وقد حافظتُ بقدر المستطاع على علاقتي بكثير من الأصدقاء الذين كنت أتوسم فيهم الصدق والوفاء والمروءة ، و هي مزايا وصفات تكاد تصبح عملة نادرة في هذا الزمن الذي يتقلب بعض ناسه و يتلونون كما تتلون الحرباء مع كل فصل ،. ويكاد البشر الذين يؤمنون بمختلف الصفات الحميدة و يتميزون بمثل هذه المزايا يصبحون من الفئات البشرية البائدة والمنقرضة . في الأسبوع الماضي ودعت الجزائر وودع كثير من الناس مسؤولين في مواقع مختلفة بما فيهم وزراء و قادة أحزاب و سياسيون وأناس بسطاء عاديون شخصا لم يكن عاديا في علاقاته الإنسانية الدافئة. كان عبد الوهاب بوزاهر سفير الجزائر في اليمن الذي ودعناه شخصا مثاليا في الوفاء و الطيبة و الصدق و البر بالوالدين والعلاقات العائلية الدافئة . و لعل البكاء الحاد الذي صاحبت به الصبية بثينة والدها عبد الوهاب و هي تودعه سواء عندما كان ينقل على النعش من منزله أو أمام عتبة المسجد أو لحظة الوداع الأخير بالعالية كان يحمل الكثير من المسحات الإنسانية التي كان يتميز بها الرجل بين أولاده و أهله و مع أصدقائه و مع كل من عرفوه بخصاله ووفائه و مروءته التي لا حدود لها. لقد أدمتْ الصبية بثينة شقيقةُ طه و ياسين قلوبنا و نحن نودع الراحل فأبكتنا و أدمعت قلوب مَن تجمعوا في تلك الظهيرة الماطرة. يقول شقيقه الأكبر محمد السعيد الرائد المتقاعد من الجيش الوطني الشعبي بأن عبد الوهاب كان مثالا حيا في الصفات الإنسانية العالية لدى عائلته و أصدقائه و معارفه جميعا ، ظل يقدم أثناء حياته منذ بدأ العمل نفقة شهرية لوالديه ،و يتصل معهما بشكل يومي إلى أن انتقل والده للدار الباقية، وواصل نفس الواجب مع والدته أطال الله عمرها و مدها بالصحة. فقد كان يتصل بها يوميا عبر الهاتف و يوصي أخاه محمد السعيد بها خيرا بعد انتقاله لصنعاء ، بل إنه ظل يتحدث معها عبر الهاتف و يطلب منها أن تزوده بدعوات الخير . يتحدث الصديق عز الدين ميهوبي رئيس المجلس الأعلى للغة العربية عن عبد الوهاب فيقول متأثرا بأن معرفته بصديقه عبد الوهاب ترجع إلى عام 1980 عندما التحقا سويا بالمدرسة العليا للإدارة . و يردف قائلا : بأنه منذ الأيام الأولى للدراسة تولدت علاقة صداقة و تواصل يومية مع عبد الوهاب ، فقد كان معروفا عن الطالب عبد الوهاب رغبتُه الجامحة في مناقشة مختلف القضايا السياسية الوطنية و الدولية المثارة في تلك الفترة ، إذ كان لا يخلو مجلس يكون فيه عبد الوهاب حاضرا من الحديث عن الشأن السياسي ، و كانت القضية الفلسطينية تستأثر بجل اهتمامه ، ثم جاء اجتياح لبنان على يد السفاح شارون و مذابح صبرا و شاتيلا فكانت تستثير هي الأخرى مشاعر هذا الطالب الجامعي الذي كان معروفا لدى الأوساط الطلابية بنزعته العروبية المفرطة أحيانا . ثم يضيف ميهوبي أنه التقى في عام 1994 بصديقه عبد الوهاب في العاصمة العراقية بغداد، و كانت أرض الرافدين وقتها تمر بظروف عويصة و صعبة . ويذكر عز الدين بهذا الصدد عبارة قالها له صديقه عبد الوهاب حينها و هما يجلسان معا في تلك الأمسية البغدادية : إنك أنْ تُقاسِمَ الناس همومَهم فإن ذلك بالنسبة لي يعد بمثابة الجائزة الكبرى التي ننالها ، لأننا لسنا أفضل و لا أحسن منهم . لا أدعي أنني عرفت هذا الصديق العزيز الوفي قبل فترة مبكرة و لكنني أشهد أنني منذ عرفته قبل عشرة أعوام مضت إلا و كان كل يوم يزداد في عيني و تزداد محبته لما وجدته فيه من صدق ووفاء و مروءة بل ووطنية جامحة صادقة ،إذ كنت ألاحظ أحيانا و كأن الرجل يحمل كل هموم الجزائر على عاتقه . كانت نقاشاتنا مذ كنا نعمل معا في رئاسة الحكومة تمتد لساعات نعرج فيها على أمهات القضايا الوطنية و على مختلف القضايا الدولية الراهنة آنذاك . و كان عبد الوهاب كثيرا ما يفضل مرة أو مرتين حسب ما تسمح به ظروفنا أن يقودني مشيا على الأقدام من قصر الحكومة إلى ساحة الشهداء لتناول الأكلة الشعبية المفضلة لديه و هي الدوبارة ، فقد كان مولعا بها ، مثلما هو مولع بحب الجزائر وبسكرة خصوصا . كان خلافنا أحيانا خلافا وديا و لم يكن خلافا في الأفكار و الطروحات ،فقد كنا نلتقي في كثير من القضايا الراهنة وطنيا و عربيا ودوليا ، وقلما كتبتُ مقالا أو نشرت كتابا دون أن أجد عبد الوهاب معلقا أو محللا أو مصوبا لفكرة أو مضيفا لرأي . كان لعبد الوهاب رحمه الله رأي في الأزمة التي أعقبت المؤتمر الأخير في 2010 لحزب جبهة التحرير الوطني، و كان للعديد من أصدقائه الأفلانيين و من بينهم كاتب هذا المقال رأي آخر. ثم كان له رأي في الانتخابات التشريعية والمحلية لعام 2012 ، و كانت لنا قراءتنا المختلفة، إذ كنت شخصيا أرى أن رياح الأزمة العاتية كانت مقبلة لا محالة لزعزعة استقرار الحزب بالرغم من النتائج التي حصل عليها في انتخابات 2012 ، و لكن القراءة المختلفة لكلينا و مواقفنا المتباينة من بعض الأشخاص لم تفسد مع ذلك ودنا و صداقتنا العميقة و الصادقة على الإطلاق. كان عبد الوهاب رحمه الله يعترف أن إبعاد كثير من الشخصيات الكاريزمية والكفاءات الافلانية و المناضلين الحقيقيين الذين صمدوا خلال السنوات العجاف التي مرت بها الجزائر و حزب جبهة التحرير الوطني خصوصا يعد إجحافا في حق الحزب و في حق هؤلاء المناضلين ،ولكن الرجل مع ذلك كان وفيا لأصدقائه ولموقفه الذي لم يكن يداري فيه أو يجامل أيا منا نحن الذين كنا نختلف معه في قراءتنا للأزمة التي كنا نراها قادمة و حتى الموقف من بعض القياديين في الحزب . ولعل هذه الصفات من المروءة والوفاء والصدق ولصراحة هي التي جعلت الكثير من أصدقاء الراحل عبد الوهاب حتى و لو اختلفوا معه يحبونه و يحترمونه و يقدرون عاليا موقفه و رأيه الذي لا يعرف المجاملة أو المداراة. لقد كان عبد الوهاب لمن لا يعرفه شخصا حاد الطباع معتدا برأيه ، و لكن الذين عرفوه عن قرب أدركوا أن عبد الوهاب كان ألْيَنَ من الحرير و أرقَّ من القطن، و لكنه يبقى مع ذلك مناضلا شرسا لا يجامل أو يهادن كلما تعلق الأمر بقضية مبدئية وطنية أو عربية أو بموقف إنساني لا يقبل المساومة أو أنصاف الحلول . كان عبد الوهاب يؤمن أن رجل الدولة والدبلوماسي إن كان مناضل قضية فهو ليس مناضل بطاقة أو حزب حتى لو كان هذا الحزب بحجم الأفلان الذي ظل متعلقا حتى النخاع بأدبياته مثلما كان متشبعا بالفكر الوطني . لقد رحت أقول له بعد تهنئته إثر تعيينه سفيرا للجزائر في العاصمة اليمنية صنعاء: ومع مَنْ نتناقش الآن يا سعادة السفير ؟ ابتسم رحمه الله كعادته ثم قال : كل وسائل التواصل متاحة . وفعلا فقد ظل على اتصال دائم و حميمي بأصدقائه جميعا و من بينهم كاتب هذا المقال عبر الهاتف منذ تعيينه سفيرا في اليمن في سبتمبر ,2009 كان يتابع الوضع في الوطن بعين المهتم و الوطني الغيور ، وكان كما يقول شقيقه محمد السعيد يتصل بالعائلة والأصدقاء اتصال الوفي و الصادق الصدوق. كنت عندما أتوجه في زيارات عائلية أو سياحية خارج الوطن لأية منطقة من العالم لا أخبر أحدا ولا أسلم له الشريحة الجديدة للهاتف النقال إلا عبد الوهاب ، كان بمجرد انتقالي للدوحة أو لباريس أو لتونس أو أية رقعة من العالم إلا وأجد هاتف عبد الوهاب خير أنيس لي ، يحدثني الرجل الطيب بقلبه ومشاعره ويحدثني بعقله و يحدثني بوطنيته الصادقة. وصفه صديق دربه و زميله في الدراسة علي لوحايدية بكلمات مقتضبة فقال : إنه مثال في الإخلاص و الوفاء و الشهامة و(الرُّجْلة) الجزائرية الأصيلة . أيها الصديق العزيز : إن غبت عنا اليوم وارتحلت جسدا لا روحا لدار البقاء ،فَمن بعدك يا عبد الوهاب سيتحدث إلينا عبر الهاتف و بواسطة القلب المفعم بكل نبضات الحب و بتلك الوطنية الصادقة التي نخاف أن تصبح عملة نادرة في هذا الوطن حيث كثر المتزلفون و المنافقون والمستديرون إلى الخلف بمائة ثمانين درجة وبألف دورة ودورة؟. رحمك الله يا عبد الوهاب ،و جعلك من عباده المبشرين بجنة الخلد والرضوان وألهمنا فيك جميعا جميل الصبر والسلوان . إنا لله وإنا إليه راجعون [email protected]