صرنا لا نتحدّث عن النقد في الجزائر، إلاّ وكانت إشارات الأزمة هي المعالم الواضحة لأيّ خطاب، سواء الذي ينتجه النقاد أنفسهم وهم قلّة أو الذي ينتجه الأدباء. هل النقد في الجزائر في أزمة؟ وجود أزمة في خطاب معرفي أو أدبي هو دليل وجوده أوّلا، وتبلوره في حركة أو نظرية أو تيار أو نشاط معرفي، وليست الأزمة إلاّ الدليل على حراك المعرفة، وتطوّرها ثم نضجها حيث تستطيع أن تدرك المزالق والمشكلات التي تواجهها، بمعنى أنّ وجود الأزمة في أي خطاب معرفي مرتبط بنضج هذا الخطاب في ذاته. من هنا، نتساءل، والسؤال ضروري في هذا السياق: هل نملك حركة نقدية حتى نقول بمنتهى البساطة أنّ النقد في الجزائر في أزمة؟ تبدو لي العتبة مُربكة، ومحرجة في عدّة مستويات، أوّلها: كأننا نثير إشكاليات حول خطاب لم يتكرّس بعد في حقل المعرفة الإنسانية في الجزائر، لأنّ ما يمكن أن نسميه نقدا لابد أن يكون واعيا بذاته، أي بحدوده الإشكالية، وبأدواته القرائية، وبمرجعياته. الأمر الثاني: هو مدى تجذّر ثقافة النقد لدى النخبة الثقافية في الجزائر أولا، كنشاط فكري وسياسي ينتج ليس الأفكار بل يضفي القيمة على مسارات تلك الأفكار- العالمية أو المحلية - داخل المجتمع، ثم سيأتي في مستوى ثان لا يقلّ أهمية عن المستوى الأوّل، وهو النقد كإنتاج لخطاب حول الأدب، أو كتقييم للأعمال الأدبية. هذا في حاجة إلى تبصّر عميق في: خصوصيات السؤال النقدي الجزائري كجزء من السؤال السوسيولوجي والسياسي والتاريخي، ثم كسؤال يبحث لا في المقولات الجمالية النظرية، لكن عن الوعي بالدور الذي يلعبه الأدب كشكل فني في إنتاج منظور نقدي للواقع الذي نعيش فيه. البحث عن الاعتراف الاجتماعي قبل أن أشرع في كتابة هذا المقال، كنتُ قد أنهيتُ تقريبا من قراءة ترجمة لفصل من كتاب لناقد لبناني من الأصوات النقدية الجديدة والجادة هو طارق العريس الذي ألّف كتابا بعنوان Trials of Arabe صدر له في نيويورك، استوقفني كثيرا طرحه النقدي للحداثة الروائية العربية، تمثلاتها في نصوص الجيل الأوّل والجيل الجديد. حين تقرأ مثل هذا النقد تكتشف مدى نضج الناقد، ومدى وعيه بأدواته المعرفية والنقدية، دون أن تشعر بأنّه يكتب تحت سلطة المناهج أو النظريات، ولا تكاد تسمع ارتباكا في نبرته بسبب تدخلات ذاتية أو شخصية. ينتبه بذكاء إلى أسئلة الكتابة الجديدة، يحاول أن يترجم اهتمامات الأصوات الجديدة في الكتابة الروائية وهواجسها الفنية والسياسية، لكنه لا تجده يغالب العواطف، ولا يكيل لأحد أو يكيد، بل تجده يحتفي بوعي وبهدوء بكل التجارب. ألا يمكن أن نلاحظ أنّ كتابة النقد هو صرح معرفي بالدرجة الأولى، هو نضج للرؤية الفكرية والفلسفية والجمالية للناقد، فكيف نكتب نقدا ونكتفي بمجرد التعليق العابر، الذي عادة ما يتحوّل إلى عتابات أو مدائح؟؟ المشكلة أدركها لا في غياب النقاد، بل في غياب الممارسة النقدية، فالنقاد موجودون بغثهم وسمينهم، لكن الغائب الأكبر هو الممارسة النقدية التي وحدها التي يمكن لها أن ترسخ تقاليد الخطاب النقدي ممارسة ونظرية ووعيا، ووحدها من يمكن أن ينتج أدوات للقراءة، لأنّ النقد في آخر المطاف موجّه للإبداع الأدبي، وحامل لقيمه، ومفسّر لها. حينها يمكن أن نتحدث عن أزمة النقد ، ولحظة الأزمات كما تعرفون هي أغزر اللحظات إنتاجا للمعرفة والإبداع، نحن لا نبدع في آخر المطاف إلاّ في ساعة الأزمات، لأنّها مراحل مفصلية في حياة أي مشروع فكري أو أدبي أو نقدي، ولنأخذ العبرة من أزمة العلوم الإنسانية في الغرب التي أنتجت البنيوية ثم ما بعدها وهكذا، تتحول الأزمة إلى منتج للمعرفة إذا عرفنا كيف ندير رهاناتها، وليست بالضرورة تعبيرا عن تدهور أو نكوص.