الجزء الثالث تتعددُ التعريفات بخصوص مفهوم الدولة حسب فقهاء القانون و خبراء السياسة و كذا المهتمين بالتاريخ، و يمكن القول بصفة عامة بأن الدولة هي مجموعة من الناس أي الشعب الذي يقيم في إقليم معين و يخضع لسلطة سياسية معينة غير أنه ينبغي قبل ذلك أن أسجل هنا أنني سأركز في مداخلتي هذه على مسألة مستقبل الدولة الوطنية في العالم العربي باعتبار أن هذا الربيع العربي أو هذه الثورات حسب تعبير البعض قد جاءت في اعتقادي لتقويض أسس ما تبقى من أركان الدولة الوطنية المتهرئة أصلا في العالم العربي ، ومن ثمّة فإن هذه الأحداث كما سنفصل ذلك مست بجوهر الدولة الوطنية ككل من حيث السيادة و من حيث المنظومة الأمنية و الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية وبالنسيج الاجتماعي ككل و بشتى المجالات الأخرى المتعلقة بسير الدولة و بمؤسساتها في بعض جمهوريات العالم العربي وفق أجندات كانت مُعدّة بإحكام من قَبْلُ مثلما نعتقد ، استنادا إلى ما عُرِفَ بخطة الفَوْضَى الخَلاَّقة التي تبنتها الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق بوش الابن كما جاء ذلك على لسان وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس بل وما قبلها، و كذلك من بعض الأفكار التي تبناها المفكر الإيطالي صاحب كتاب الأمير مكيافيلي الذي أشار أن الفوضى تُولّد في النهاية النظام وكذلك رهانات مؤسسات الاستشراف الإسرائيلي بما في ذلك جماعة الأيباك ذات التأثير البالغ في السياسات الأمريكية . خلال فترة الستينيات و السبعينيات كان هناك تباين في طبيعة الأنظمة من جمهورية إلى ملكية و إلى أنظمة قائمة على حكم السلطان أو الأمير ، وفي المقابل كان هناك اختلاف في المواقف و السياسات بين مختلف هذه الأنظمة ، و خاصة بين الأنظمة ذات الحكم الملكي التي كانت توصف بالرجعية و بين الأنظمة و الحكومات الجمهورية التي كانت توصف بالوطنية أو بالتقدمية . غير أن بعض المواقف و من بينها المواقف الشجاعة للملك السعودي الراحل فيصل و التي يمكن وصفها بالمواقف الثورية الراديكالية و زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس في ال19 نوفمبر 1977 قد أسقطت مثل هذه التباينات والمصطلحات،و غيرت بعض القناعات تجاه المصطلح ، و إن كان تشكل ما عرف بجبهة الصمود و التصدي في 1977 من دول تنتمي كلها لجمهوريات : هي الجزائر، العراق ، سوريا ، و اليمن الديمقراطية قبل التوحيد و ليبيا إضافة إلى منظمة التحرير الفلسطينية طرح هو الآخر بعض التساؤلات عن التمايزات بين الدول العربية ملكية و جمهورية بالرغم من أن بعض الدول العربية الملكية كانت في الظاهر على الأقل ضد تلك الزيارة و تبعاتها على التضامن العربي الذي برز خصوصا في أعقاب حرب أكتوبر 1973 و القرارات المتعلقة بإدخال المحروقات في تلك الحرب عبر ما عرف بحظر بيع النفط العربي للدول المساندة لإسرائيل. ولذلك يطرح العديد من المراقبين السياسيين اليوم تساؤلات عن سر هذا الربيع العربي حسب وصف أصحابه الغربيين أنفسهم و خاصة أنه لم يمس سوى دول الصمود ذات الطابع الجمهوري باستثناء الحالتين التونسية و المصرية ، أي معظم تلك الدول التي عارضت أي شكل من أشكال التطبيع أو العلاقات مع إسرائيل . ثم إن هذا الربيع الذي تُوجَ كذلك بتقسيم السودان إلى شطرين سُبق قبل ذلك باحتلال العراق الأمر الذي يَصُبُّ في النهاية لمصلحة إسرائيل أساسا و لصالح القوى الغربية الطامعة في ثروات الوطن العربي و التي ما تزال تحِنُّ إلى الانتقام من عدد من الدول النفطية العربية بسبب التبعات التي أحدثتها حرب أكتوبر 1973 على اقتصادياتها و على سياساتها عموما ، و التي اعتُبِرتْ إذلالا للغرب من قبل العرب و خاصة أمريكا التي هدد وزير خارجيتها آنذاك هنري كيسنجر بالانتقام من تلك الدول. و لا يجب هنا أن ننسى أن الجزائر عاشت ربيعها قبل الآخرين بفعل أحداث أكتوبر 1988 وكذا التبعات التي خلفتها العشرية الدموية في التسعينيات و التي كلفت الشعب الجزائري ثمنا باهظا ، و قد كاد مصير الدولة يتحول إلى الصوملة لولا تماسك الجيش الشعبي الوطني ووقوف مختلف القوى الوطنية لحماية الدولة من الانهيار. إن تلك الثورات تظل في اعتقادي مجرد انتفاضات أو أحداث جاءت متزامنة من نهاية 2010 إلى مطلع 2011 حيث انتهت بسقوط كل من زين العابدين و مبارك في تونس و مصر و مقتل القذافي في ليبيا و تنحي علي عبد الله صالح في اليمن و تتابع الأحداث الدموية في سوريا إضافة إلى تقسيم السودان إلى دولتين . وصف بعضهم ما وقع في تلك البلدان بأنه ثورة ، ووصف آخرون ذلك بالربيع العربي ، و في اعتقادي أن كِليْ المصطلحين مظلومين. فالثورة ليست بهذه الدرجة من الابتذال ، إنها فعل يكاد يكون مقدسا و هي من عمل نخبة مميزة في فكرها و تخطيطها و تنظيمها و بعدها و رؤيتها المستقبلية ، و تصبح تلك الثورة بعد ذلك من صنع الشعب في عمومه عندما يتبناها و يدفع بها للأمام ، و هي ليست من صنع فرد مهما كانت شجاعته و عبقريته وكاريزميته ، إنها محصلة تجارب وإرهاصات ،و تهدف إلى التغيير النوعي الشامل لتحقيق غايات نبيلة مثل الحرية و الاستقلال و المساواة و تحقيق العدالة الاجتماعية و الديمقراطية و نيل الحقوق و الحريات الفردية و الجماعية و اقتسام الثروات بعدالة بين المواطنين ، و هي ترمي كذلك إلى مواجهة الظلم و القهر والتصدي للاستبداد بكل أشكاله و مخلفاته و تحقيق الرفاهية في أوساط الشعب و القضاء على البطالة وصولا إلى تحقيق دولة العدل و الحق و القانون. و حتى إن صدقنا أن ما حدث كان ربيعا ، فالربيع يحمل معه مظاهر البهجة والفرح و الاخضرار و ليس مظاهر الدماء و الدموع و الخراب و التدمير و اللأمن كما فعل ربيعهم المستورد هذا المحمول عبر الطائرات المقنبلة و التفجيرات و السيارات المفخخة و تقسيم الشعب إلى مِلل و نِحل و طوائف ومذاهب أو حاملا للإرهاب المدمر في بلدان كانت تنعم رغم عيوب أنظمتها بالأمن و الاستقرار. لقد كان من بين الارتدادات الأولى لهذا الربيع العربي أنه أدى الى ما يلي: 1 -دمر إلى حد بعيد الشكل القائم للدولة العربية الوطنية في مختلف البلدان التي مسها هذا الحراك المتزامن و السريع رغم ما في أنظمة تلك البلدان من مظاهر سلبية. وإذا كانت الدولة حسب مختلف النظريات و التعريفات المتداولة هي الأساس و العنصر الدائم و أن الحكم هو عكس ذلك باعتباره عارضا ووقتيا ، فإن الذي كشفته الاختلالات التي شهدها الوطن العربي خلال الفترة الأخيرة أن الدولة أصبحت في ممارسات كثير من الحكام و الأنظمة مجرد ظاهرة عارضة وأن أنظمة الحكم هي الدائمة . 2 -دمر المنظومة الأمنية تدميرا يكاد يكون شاملا و أحدث خللا في منظومة القيم الاجتماعية و الثقافية و الاقتصادية و السياسية و زرع بذور الفتن و الصراعات الطائفية والمذهبية والعرقية في مختلف البلدان، و هو يكاد يؤدي إلى تفتيت بعض البلدان التي لم تعرف إطلاقا منذ نشأتها مثل هذا الخلل خصوصا ليبيا التي زُرعت فيها الميليشيات التي راحت تعبث بالأمن و الاستقرار و باتت تهدد كيان الدولة رغم هشاشته في عهد النظام السابق ، و خاصة إذا ما أعدنا إلى الأذهان أن نظام القذافي لم يترك مؤسسات قائمة من شأنها أن تحافظ على كيان الدولة مثل الجيش و المؤسسات الأمنية والمؤسسات المنتخبة ديمقراطيا ، أو مصر التي تحول فيها الإسلام السياسي إلى قوة مخيفة زارعة للرعب و الإرهاب و حيث بات هذا البلد الضارب في الحضارة مهددا بكل ألوان التحلل و التفكك و الانقسام خصوصا بعد فشل تجربة حكم الإخوان و ما أعقبها من انقلاب باتت تبعاته تهدد كيان الدولة برمته بمصير مجهول و مستقبل غير محمود العواقب وخاصة بعد تحول الجيش الذي كان على امتداد عشريات طويلة صمام أمان إلى عنصر مثير للتوتر تكاد هيبته لدى الرأي العام المصري تذهب سدى ، أو تونس التي ظلت منذ عهد الرئيس بورقيبة تعيش في استقرار دائم وإذا بها بسبب إفرازات و ارتدادات هذا الربيع الذي أوصل الإسلاميين لأول مرة في هذا البلد إلى الحكم كادت تتحول إلى مرتع للتطرف بشتى فروعه و إلى وكر للعنف والإرهاب واللاتسامح ، بل ومرتعا لجماعات من السلفية المتحجرة الفكر . غير أن إصرار الطبقة السياسية خصوصا المعارضة على التغيير الشامل و نضج الإسلاميين بقيادة النهضة على عدم التمسك بنتائج الصندوق عبر استفادتهم بمآلات تجربة الإسلاميين في الجزائر و خاصة جماعة الفيس مكن تونس من تجاوز الأزمة التي كانت تدق بهذا البلد بعد توصل مختلف الأطراف السياسية إلى دستور توافقي و حكومة تقنية انتقالية تسهر على الاستحقاقات القادمة . وبذلك تكون تونس النموذج الاستثنائي الناجح في ما انتهت إليه ارتدادات الربيع العربي . 3 -من تبعات هذا الربيع أنه يكاد يدمر الهوية الوطنية و يحدث انشقاقات عرقية و مذهبية و عشائرية داخل الوطن الواحد بل وفي القرية والمدينة الواحدة كما هو الحال خصوصا في ليبيا و حتى مصر حيث سقطت تجربة التعايش بين المسلمين و الأقباط. لقد أحدث هذا الربيع العربي للأسف تراجعا رهيبا لكثير من القيم الجميلة التي كانت سائدة و أصبحت الدولة الوطنية بموجب ذلك مهددة في كيانها وأمنها و في وجودها وحدودها بالتالي في مستقبلها ، مثلما أصبح السلاح المنتشر بين بعض الجماعات كما هو الحال في ليبيا مصدر قلق أمني لبلدان الجوار و خاصة للجزائر و تونس حيث باتت بعض الجماعات تسعى إلى تمرير السلاح عبر الحدود. كما أن المطالب التي حملها الشباب الثائر والذي سرقت منه هذه الثورات بين قوسين أصبحت في خبر كان و أكثر من هذا فإذا كان مضمون هذه الثورات قد أُفْرِغَ من محتواه بعد أن ظهر أمام الشباب الثائر واقع بائس حالك السواد فلا الشعارات التي رفعوها تحققت ولا التداول على السلطة الذي طالبوا به قد أنجز فالحريات التي كانوا ينادون بها قد تراجعت بشكل كبير بعد أن فقدوا الأمن و الاستقرار و بعد أن باتت الجماعات الإجرامية والإرهابية تزرع الرعب و تثير الفزع في النفوس في كل مكان ، كما تراجع مستوى الدخل القومي والفردي وزادت نسبة البطالة وتضاءلت فرص الاستثمار الأجنبي وتراجع الاستثمار الوطني بسبب الخوف الذي بات يسكن النفوس ، بل و أصبحت حتى المحروقات كما هو الحال عليه في ليبيا لا تصدر بعد أن سيطرت بعض الجماعات المسلحة على مناطق منابع النفط و فقدت الدولة سيطرتها الكاملة على الوضع و باتت إطاراتها في مختلف المواقع تلقى مصرعها كل يوم ، كما أن السياحة التي كانت مصدر عيش ملايين المواطنين خصوصا في مصر وتونس توقفت في جهات وتراجعت في مناطق أخرى . ثم إن معظم مَنْ تولوا المسؤوليات والمراكز القيادية الحساسة في بلدان هذا الربيع العربي جُلبوا من الخارج كما كان الأمر في ليبيا وتونس وحتى مصر قبل الإطاحة بمرسي ، كما أن البعض الآخر منهم لم تكن له علاقة بالواقع وبأمور تسيير الدولة وخاصة أن البعض عاش فترة طويلة في سجون الأنظمة السابقة و كان منقطعا فعلا عن الحقائق الوطنية و الإقليمية و الدولية يتبع. [email protected]