ذات يوم ونحن نسير في الطريق التقينا قافلة تتكون من النساء فقط، ربما تركهن الرجال حتى تكون لهن دون شك حرية أكثر في التحرك خلال الرحلة، وتركوا معهن حارس واحد، كن قد ترجلن عن جمالهن ورحن يمشين بخطى سريعة ومنهمكات ربما في رغبة أن يصلن سريعا إلى المخيم، كانت وجوههن قلقة. وتغابرهن مبهة، وما كدن يلتفتن نحونا عند مرورهن بالقرب منا كانت مناسبة رائعة أن نرى عن قرب ذا النموذج الغريب من جنس رجل الصحراء، حتى الآن لم نر النساء سوى نائمات أو جالسات على حوقلات مربوطة على ظهور الجمال، وهن يحملن أطفالهن في أيديهن هذه المرة يمكننا الحكم عليهن أفضل، كن طويلات وممتلئات، أردافهن المحدبة تشد دون جهد الطفل الملتف والملتصق بجلبابهن، وصدورهن المنتفخة لا شيء بها من الشكل اللين الذي تحبه سيدات نساء قسنطينة، مثلما هي الأرجل مشوهة كعند الصينيات، ورؤوسهن مرفوعة، نظراتهن فيها أبناء ودون حنان، وحركتهن لا رقة فيها، لا شيء من روح الشباب يمكنه أن يضفى سحرا على هذه الأشكال الرجولية، على هذه الأعضاء العصبية وهذه البشرة السميكة والنحاسية، ثيابهن سوداء أو زرقاء، غامضة ومشبوكة بحلى من الفضة والمرجان تعطي شيئا من القساوة لكل شخصيتهن، أي فرق بين الجلابيب الرقيقة والألوان الزاهية التي في العموم تحب نساء الشرق والألوان التناسق هو كل شيء في هذا النوع وهو أساس الجمال الحقيقي والمتكامل في ثيابهن خشونة هيئتهن ومتطلبات قساوة وجودهن. عندما يحل الليل تخيم القوافل في القل القريب من عين أو وادي ويكون نوعا من ملجأ للنساء بالبطانيات ويكتفي الرجال بعد أن يرقدوا حيواناتهم في دائرة، بأن يتمددوا وسطها واضعين رؤوسهم على السروج ويغون وجوههم ببرانسهم خوفا من يفقدهم الرؤية الندي الغزير جدا، وهو خوف مؤسس منذ زيارتنا للكيلومتر الثاني عدنا عدة مرات إلى طريق باتنة حتى أن نتأمل بشيء من الدقة القوافل المتناسقة دوما في تركيبتها وألوانها المحلية. عندما ندخل قسنطينة تبدو لنا بتناقضاتها، كأنها نموذج للحضارة، كنا فضوليين لمعرفة عادات هذه الفئة من الرحل، انهم في الغالب يتوقفون خلال رحلتهم السنوية في مكان قريب جدا من قسنطينة لتكون نهاية رحلتهم هنا يوجد سيل مائي مخفي بالأشجار، أشجار الرند الوردي، ويصب في بومرزق، هنا يقضون الليلة حتى يكون لهم في اليوم الموالي الوقت الكافي لافراغ حمولتهم، وبحجة قطف الأزهار حاولنا الاقتراب من هذا المكان الموعد، حتى نتمكن بأنفسنا من التأكد ومعرفة ماذا يمثل مخيم لهذا، عندما وصلنا كانت الوقت حوالي الخامسة عصرا، وبما كانت الشمس منحدرة في الأفق بلون أصفر، وقد لونت بالحقول الجافة بلونها الحامق تماما، أما الجبال فبلون أسمر وبنفسجي، في وسط شبه ساحة واسعة -شكل طبيعي- مجموعة من الجمال وصلت حديثا منتشرة تحت سماء زرقاء وسط سحابة من الغبار الذهبي، ارجل حداتها عارية حتى الركبة، وهم يسعرون في انتزال حمولتها حتى لا يتأخرون على وقت الصلاة الذي يقترب ينزلون السلع ويضعنها كالحبل في دائرة كونتها الجمال النائمة كل قافلة لها مكانها الخاص، ولا تختلط بقافلة الجار: بعد أن تهيم تحت سماء حارقة تتوقف القافلة قرب أكمة لترتاح مساء من التعب المنهك وحتى تمنح الجمال النتي تبدو متحررة أكثر من الذهاب إلى الجوار بحثا عن النباتات التي تبرز رؤوسها الجافة في الحقول، ويهتم حذاتها بربط ارجبها الطويلة برباط من الجلد، بينما تكون النساء منهمكات في تحضير العشاء، يتوجه الرجال في مجموعات نحو الوادي غير العميق في هذه الجهة ويتموقعون تحت الجسر الذي يبر الطريق حتى يكونوا في مخبأ من النظرات، ويبدأون في الوضوء ويعلمهم القرآن أن يبدأوا دائما بعدد ثلاثة واذن لابد أن يمرروا الماء ثلاث مرات على أيديهم بدءا باليد اليسرى، وثلاثة مرات على أرجلهم وهكذا دواليك بقية الجسم، عندما ينتهي الوضوء يعودون الواحد تلو الآخر إلى المخيم أين يبدأون مباشرة ووجوههم في الشرق، حركات الركوع والسجود المفروضة في الصلاة عند المسلمين، بعد ارتداء برانسهم، كما عندنا نحن عندما نرتدي ثيابا محترمة لندخل إلى الكنيسة، ويظهرون بوضوح تحت السماء مستقيمين وجامدين تقريبا ومدفونين في الطيات التي تشكلها ثيابهم الصوفية الجميلة، ويبدون بفضل ارتفاع الأرض انهم أصبحوا فجأة ذوي قامات عملاقة، المشهد كله كان يهيمن عليه الوقار. رؤية هؤلاء الرجال البدائيين البسطاء والجهلة الذين بعد انتهاء يوم بئيس يرفعون أيديهم نحو الرب يجب أن يكونوا أمثالا بالنسبة لعدد من المسيحيين المتبجحين بعلومهم والمعتدين بقوتهم المتناسين أنهم بالنسبة للرب لا يستطيعون أي شيء ولا يمكنهم فعل شيء وأنهم لا يملكون أية سلطة لا تأتي من الرب. إن عزلة الصحراء تدفع العرب طبعا إلى التوجه إلى من يمثل بالنسبة لهم الثابت والجزء المشترك، إن هذا الجنس الذي تضاعفت الامه منذ قرون يتوجه تلقائيا نحو الرب الذي يمثل له صورة الرأفة والعدل والقوة، العرب لا يحسون هكذا، أنهم وحدهم ولا أنهم متروكين في هذه الجهات الشاسعة والمنعزلة والجرداء، حيث يتربص بهم الموت في أبشع مظاهره.