الله جميل يحب الجمال، موصوف بالجلال، انظر نهجه، وقد أنبت حدائق ذات بهجة، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأبدع الكائنات في تصوير مستقيم، جمال في كواكب السماء، وحسن يكسو الأشياء، نجوم زاهرة، وبحار زاخرة، كأن الأرض مكسوة بأحسن نسيج، والحدائق فيها من كل زوج بهيج، رسم الجمال في الكائنات، وخط الحسن في المخلوقات. * الجمال في العين بلونها الأسود، وبجفنها المقعد، بسحر نظرتها، وروعة خطرتها، مدورة في بهاء، متحركة في سناء، لها في الظلام بريق، ولها في الحركة تلفت رشيق، عليها رمش يحميها، ويغسلها ولا يدميها، وهي في نهر من الماء تسبح، وفي هالة من النور تمرح، في نظرها أسرار، وفي تلفتها أخبار، لها لغة تفهمها القلوب، ولها سحر تكاد منه النفس تذوب. في طرفها حور، يقتل من نظر، لها في النفوس إيماءات، وفي الأرواح إضاءات، يعرف بها الرضا والغضب، والجد واللّعب. الجمال في الفم وهو بالحسن محبوك، وبالأسنان مسبوك، يرسل الكلمات، ويبعث النغمات، بلسان فصيح، وصوت مليح، لا ينطق حتى يؤمر، ولا يسكت حتى يزجر، فيا له من خلق ما أبدعه، ومن صنع ما أروعه (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) الجمال في الوجه، بطلعته البهية، وإشراقاته الرضية، قسمات ترسم، وقبلات عليه من البهاء تبسم، خد بماء البشاشة يسيل، وطرف بإيحاء الحسن كحيل، دمع كالسيل، وشعر كالليل. وجبين كالمهنّد، وفم منضّد. الجمال في قامة الإنسان، وروعة هذا البنيان، أذنان وصِماخان، وعينان نضاختان، ويدان منافحتان، ورجلان كادحتان. الجمال في الروض الجذاب، بجماله الخلاب، طيور تلقي قصائد الحنان، على منابر الأغصان، وحمام ينشد إلياذة الفراق، على أطراف الأوراق، وماء يسكب، ونسيم يكتب، أنهار ودوح، ومسك من الروض يفوح، حسن باه، وإبداع إلهي (سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى). الجمال في الصبح إذا تنفّس، فسبحان من صوره وتقدس، الصبح بطلعته الآسرة، وإطلالته الباهرة، الصبح وهو يغشى العالم، ويمر على كل قاعد وقائم، الصبح وهو ينشر عباءته الذهبية على الوجود، فيكاد يكلمه من حسنه الجلمود، الصبح يوم يتوضأ الفكر في عباب نوره، ويغتسل القلب في بحر سروره، وتسرح النفس في مهرجان عرسه، وتنصت الروح لهمسه وجرسه. الجمال في الليل إذا عسعس، وأقبل في هدوء يتوجس، يقبل الليل بردائه الأسود، وشعره المجعد، فيستر الأحياء بثيابه، ويضع الأشياء تحت جلبابه، فيملأ بجيشه المساكن، فكل متحرك ساكن، والليل له هيبة في العيون، كأنه كتيبة تحمل المنون. الجمال في الشمس وهي على الكون تتبرج، ليتمتع في الحسن كل حيٍّ ويتفرج، أشعة تعانق العين في صفاء، وتداعب الروح في وفاء، نور يطارد الظلام، ويبعث في الكون الإشراق والوئام، الشمس جرم هائل من النور، فيها معاني الفرح والسرور، تجري لمستقر لها، فويل لمن غفل عن آياته ولها. الجمال في القمر يوم يبدأ علينا بهذا الوجه الصبيح، والمنظر المليح، هالة من الصفاء، وفيض من السناء، ينزل أبراجه في وقار، ويطارد الظلام بالأنوار، كثيرُ إحسان، حبيبٌ إلى كل إنسان، إذا خسف بكى الناس، كأنهم حل بهم الباس، يتدرج في النمو حتى يكتمل، ويهرم شيئاً فشيئاً حتى يضمحل، فسبحان من صوّر ودبّر، وزين القمر وكوّر. والجمال في النجوم اللاّمعة، والكواكب الساطعة، انظر إلى السماء، في الظلماء، وقد رصع تاجها بالنجوم، التي تذهب رؤيتها الهموم والغموم، مهرجان حي من الحسن الباهر، حفل بهيج من الجلال الظاهر، الجوزاء تضحك في الظلماء، كأنها حسناء في قصر أحد العظماء، الثريا في صويحباتها، ومع رفيقاتها، في مشهد عجيب، وفي صمت رهيب، سُهيل وقد هجر الجميع واعتزل، وهو واقف ما مشى وما نزل، آلاف النجوم تجمل هذا الفضاء الكبير، بتقدير اللطيف الخبير، نجم تراه عن الجميع شاردا، ونجم يحرق ماردا، ونجم يُعرف به السفر، ويستدل به البدو والحضر، ونجم إنما هو زينة، لهذه السماء الحسينة. الجمال في الجبال، بالوقار قائمة، وفي جلال القدر هائمة، ثابتة على مر الأزمان، باقية ما تعاقب الحدثان، تمر بها الرياح الهوجاء، وهي صامدة صمّاء. عاش معها ثمود وعاد، وساسان وشداد، وهي باقية والجمع قد باد، صاحبت القرون، وشاهدت فرعون وقارون، فبقيت وهم ماتوا، وحضرت وهم فاتوا (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا(. وكل ما مرّ يدخل في جمال الذات، وحسن الصفات. أما جمال المعنى، فكن معنا، ولا تذهب وتدعنا. فمن ذلك جمال البيان، مثلما أشرقت به شمس القرآن، أما رأيت حسن هذا الكتاب المقدس، الذي على الصدق تأسس. تأثير يسافر إلى أعماق الأرواح، وأسر يشد ما اهتز من الصور والأشباح، نبأ يوقف العاقل متفكرا، وخبر يجعل الإنسان متذكرا، حقيقة تغوص في الضمائر، وطهر يرسخ في السرائر، موكب من النور يجتث أكوام الرذيلة، فيض من الحق يحمل معاني الفضيلة، قافلة من الصلاح تطوي صحراء النفوس طيا، نهر من البر يروي القلوب العطشى رِيّا، إيماء وإيجاز، وإفحام وإعجاز، عذوبة وحلاوة، وسلاسة وطلاوة، قوة وأصالة، فصاحة وجزالة، لغة جميلة، مقاصد جليلة، براعة استهلال، وحسن تفصيل وإجمال، يسافر بقلبك إلى عالم الخلود، ويرتحل بروحك إلى حقيقة الوجود، ويغسل ضميرك من لوثة الخيانة، ويطهر كيانك بماء الأمانة، مشاهد وصور، وأحداث وعبر، وأخبار وسير، وقصص وأمثال، وأفعال وأقوال، عالم الحياة بأريجه وضجيجه، وعالم الموت بأناته ونشيجه، دول تمر مر السحاب، وملوك تدس في التراب، تقرأ هذه المعجزة الخالدة، فإذا الأمم البائدة، حضارات تسقط كأوراق التوت، وممالك تتهاوى كبيت العنكبوت، والقرآن يناديك من أطراف لبك، ومن سويداء قلبك، تدبر يا عبد، جد فإن الأمر جد، ودع الرد والصد، استفق يا إنسان، اهجر عالم الغفلة والنسيان. انبعث من قبور الأشقياء، وتعال إلى جنات الأتقياء، انفض غبار الوثنية، ارفض وساوس الجاهلية، أعتق رقبتك من النار، حصّن نفسك من البوار، ارفع رأسك في سماء الكرامة، أنت من أمة الخلافة والإمامة، تقدم لإصلاح العالم، فالكل سواك هائم عائم. أيها الإنسان، شاهد الكون، بعين الإيمان، تنظر للشوك ولا ترى الزهور، تشاهد الآسن ولا تبصر الطهور، يهولك الليل بالظلام، ولا تستمتع ببدر التمام، تشكو من حرارة الشمس اللاذعة، ولا تتلذذ بتلك الأشعة الساطعة. تستوحش من وحدة الصحراء، ولا يؤنسك فيها روعة الإيحاء، ما لك تزعجك الرياح الهوجاء، فأين حسنها إذا زارتك وهي رخاء، تنظر إلى الصخر كيف تحجّر، ولا تنظر إلى الماء منه كيف تفجر، تبصر رداءة التراب، ولا تدرك أنه مادة الإنجاب والإخصاب، لا ترى من السيل إلا الدمار، وهو مصدر النماء والعمار، تأخذ من المصيبة العويل، وتنسى الأجر الجزيل. تضع على عينيك نظارة سوداء، لترى الحياة جرداء مرداء، فأين الندى والطل، وأين الخضرة والظل، تسمع نعيق الغراب، ولا تنصت لهديل الحمام الجذاب، انظر إلى الحياة في ثياب جمالها، وفي رداء جلالها، شاهد الكون وهو في عباءة البهاء، وحلة السناء، طالع العالم بعين الحب، لتشاهد بديع صنع الرب، واعلم أن الجحود إلحاد، والتنكر فساد، ومن لم يشاهد إلا القبيح، فرأيه غير صحيح (قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(، (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ(.