أعيشُ في الوقت الراهن الأيام الأخيرة لفترة مشاركتي في برنامج الكتابة العالمي التابع لجامعة آيوا، بولاية آيوا في أمريكا. البرنامج ببساطة هو فترة إقامة لمدة عشرة أسابيع للتفرغ للكتابة، ولكن في أثناء تلك الفترة يحشد القائمون على البرنامج ? وغالبيتهم من الكتّاب والشعراء ? كل جهودهم للاستفادة المتبادلة من وجود كل أولئك الكتّاب من دول العالم المختلفة في المدينة الهادئة التي لولا الجامعة لاقتصرت على سكّانها الهادئين وطابعها الوقور. وفد إلى مدينة آيوا للمشاركة في هذا البرنامج منذ منتصف السبعينات وحتى الآن حوالي ألف وأربعمائة كاتب من أكثر من 140 دولة، في ضيافة وإشراف جامعة آيوا صاحبة أقدم وأعرق ورش تعليم الكتابة الإبداعية التي يتخرج منها سنوياً عشرات الكتّاب المحتملين، ومن إحدى ورش الكتابة الإبداعية تلك تخرجت الكاتبة النيوزلندنية إليانور كاتون الفائزة بجائزة المان بوكر لهذا العام والتي لم تتجاوز السابعة والعشرين من عمرها. كما مرّ بهذا البرنامج كثيرٌ من الأسماء المصرية اللامعة ابتداءً بعلي شلش في أول دروات البرنامج عام ,1976 ومررواً باعتدال عثمان في التسعينات، وصولاً إلى أحمد العايدي وأمينة زيدان وياسر عبد اللطيف، ثم أخيراً خالد البرّي في العام الماضي فقط. من البداية كان أمامي تحدّ أساسي هو أن أعمل يومياً في الصباح المبكر ولوقتٍ محدد على المسودة الأولى لروايتي الثانية، بيت العنكبوت، بحيث أنهي هذه المسودة قبل انتهاء فترة الإقامة، وفي الوقت نفسه أتمكن من استيعاب الحد الأقصى من التجربة والتفاعل معها بقدر استطاعتي. وكان من الواضح أن القائمين على البرنامج لا يهتمون كثيراً بأن ننجز بعض الكتابة خلال إقامتنا هنا، فهذا شأننا ونحن أحرار فيه. فإنّ جدول كل أسبوع حافل يومياً بالقراءات والندوات والمناقشات التي يمكن لأهل آيوا سيتي أو طلاب الجامعة المشاركة فيها ببساطة، هذا إلى جانب بعض ورش العمل مثل ورشة الترجمة التي يتعاون فيها الكتّاب مع طلّاب الترجمة على نقل أجزاء ونماذج من لغاتها الأصلية إلى الإنجليزية. بعض هذه الفعاليات اختياري وبعضها لا بدّ من المشاركة فيه. باختصار تتحوّل فترة الإقامة إلى عجلة إنتاج لا تتوقف لحظة، ويصبح البرنامج خلية نحل يتعاون كل من فيها طوال الوقت لإنجاز شيء ما، دون أن يُنسيهم هذا ضرورة وأهمية المناسبات الترفيهية والجولات السياحية للتعرف على البلاد، في منتصف برنامج هذا العام رحلة لخمسة أيام لإحدى الولايتين، سان فرانسيسكو أو نيو أورليانز. لا شك أيضاً أن فكرة «بيع» أمريكا لنا ككتاب من دول أغلبها عالم ثالث، بمعنى أنها ليست ذلك الشيطان الرجيم أو الفتوة الغشيم المقرف، أو ربما ليست ذلك وحسب، تلك الفكرة موجودة ضمناً في صميم البرنامج وعمقه. وبالمقابل: ماذا لديكم أنتم لنعرفه عن مجتمعاتكم؟ ما طبيعة حياة الكتابة في بلادكم؟ ثمة شيء وحيد لا يمكن تصميمه مسبقاً ولا يمكن توقعه بالمرة، وهو التفاعل الإنساني المباشر ما بين جميع هؤلاء الكتاب الوافدين من ثقافات وخلفيات متباينة. هنا فقط تكمن المفاجآت السعيدة على الأغلب، هنا نعثر على المشتركات التي توحّد وتجمع، هنا تولد الألفة أو يبزغ النفور، هنا تتكشف المنابع العميقة الموحدة التي تغذي التجارب شديدة التمايز، هنا يمكن لنا نسيان لون البشرة واللغة الأم وتفاصيل الأزمات السياسية الخاصة بكلٍ منا، وأن نضع أيدينا على القاسم الإنساني المشترك والمرواغ على الدوام، ولو للحظات عابرة، ولو تحت مظلة أمريكية.