ربما لا تكون دوامة العنف في غزة بنفس القدر من الوحشية الحالية في سوريا أو العراق، ولكن تداعياتها على الاستقرار والسلام في المنطقة أكبر بكثير. فالخسارة الرئيسة في هذه الحرب، بالإضافة إلى أولئك الذين يقتلون، هي فرصة إقامة السلام بين فلسطين وإسرائيل تحت ولاية رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. فعباس، الذي كان الزعيم الفلسطيني الذي دائما ما كان يرفض باستمرار العنف والانتفاضة العسكرية والصواريخ التي تطلق من غزة، من المرجح أن يتقاعد بعد 4 أغسطس (آب)، وهو التاريخ المزمع أن تقوم فيه حركة فتح التي يتزعمها بعقد مؤتمرها العام السابع في رام الله. وربما يتبنى القادة الجدد، الذين سيمثلون على الأرجح جيل الشباب الذين عاشوا تحت وطأة الحكم الإسرائيلي معظم حياتهم، موقفا تفاوضيا أكثر صرامة بكثير من مهندس اتفاقات أوسلوالفلسطينية عام .1993 لم يتوان عباس في جهوده الرامية إلى إيقاف الخطاب التحريضي لقنوات التلفزيون الفلسطيني الرسمية، كما ندد بالهولوكوست. كما عمل بجد من أجل ضمان أن تسود ثقافة السلام والتسامح في فلسطين. وعقد اجتماعات بشكل منتظم مع الإسرائيليين من جميع مناحي الحياة، وكان أحد المشاركين البارزين في مؤتمر السلام الذي عقدته حديثا صحيفة هآرتس. وفي تلك المناسبة، أكد عباس دعمه لخطة السلام العربية، وأكد مجددا التزامه بالعلاقات الطبيعية والسلمية مع إسرائيل حيث قال: «بصفتي رئيس الشعب الفلسطيني، فأنا ملتزم تماما برؤية حل الدولتين والتطبيع والسلام مع جارتنا - إسرائيل». وتنال كل قنبلة تسقط على المدنيين الأبرياء في غزة من تركة عباس السلمية. بدأت الحرب الإسرائيلية على غزة باتهام لم يثبت صحته بأن قيادة حماس في غزة كانت وراء الجريمة النكراء التي وقعت بالقرب من الخليل، وأسفرت عن وفاة ثلاثة مراهقين إسرائيليين. وشمل انتقام إسرائيل، الذي جاء بناء على ادعاء تبناه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ولم تثبت صحته حتى الآن، اعتقال مئات الفلسطينيين دون تهمة من الضفة الغربية، بما في ذلك برلمانيون منتخبون، وهدم منزلين فلسطينيين وقصف غزة. وعندما رد سكان غزة بإطلاق صواريخ بدائية لم تسفر سوى عن موت شخص إسرائيلي واحد حتى الآن، ردت إسرائيل بطريقة غير متناسبة. وبينما كان الهدف الإسرائيلي المعلن هو وقف القذائف المقبلة من غزة، يعد الهدف الحقيقي وراء ذلك سياسيا: وهو القضاء على عملية السلام التي دعمها عباس بقوة على الرغم من الهجوم الذي شُنَّ عليه. وكان اتفاق المصالحة الذي عقد في مايو (أيار) بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية وسيلة اتخذها عباس لإنهاء حكم حماس، من خلال أكثر الوسائل تحضرا: انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة. وعبر عباس في كثير من المناسبات أنه لا يخطط للترشح لفترة رئاسية جديدة. وكانت إسرائيل أول من هاجم حكومة الوحدة الوطنية، على الرغم من أن حماس لم تكن ممثلة فيها. ورحب المجتمع الدولي بهذه الحكومة، التي قبلت علنا شروط ما يسمى برباعية الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا بالاعتراف بإسرائيل وقبول الاتفاقات الموقعة سابقا. ولم تكن إسرائيل وحدها من رفضت اتفاق المصالحة، بل رفضته بعض العناصر المتطرفة في فلسطين، التي لم تكن ترغب في رؤية نجاح عملية السلام التي يقودها عباس. ولعبت العملية العنفية التي جرت ضد الإسرائيليين الثلاثة بمشاعر الرأي العام الفلسطيني، الذي شكله إضراب مئات السجناء الفلسطينيين عن الطعام لمدة شهرين احتجاجا على احتجازهم دون عرضهم للمحاكمة أو توجيه أي تهم لهم. واستنكر عباس علنا عملية الاختطاف، وتعهد بمحاولة المساعدة في العثور على الجناة، وأعلن مساندته المستمرة للتنسيق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين. انتُقد عباس بشدة بسبب هذا البيان الذي ألقاه أمام منظمة التعاون الإسلامي، بيد أنه استمر في دعم التنسيق الأمني، وتلقى دعما من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومع الأسف شملت مشاعر الرأي العام الإسرائيلي هتافات أطلقتها الحشود الإسرائيلية تنادي ب«الموت للعرب». وأعقب ذلك اختطاف محمد أبو خضير، الصبي الفلسطيني من القدس وحرقه حيا، ثم الحرب على غزة. عندما اندلعت أعمال العنف أثناء ولاية حكومة إسرائيلية سابقة، جاء أفضل تعبير عن الحاجة لمعتدلين يتحدون ضد المتطرفين على لسان إسحق رابين الذي قال: «إن محاربة الإرهاب كما لو أنه ليس هناك عملية سلام، وتحقيق السلام كما لو أنه ليس هناك إرهاب». وللأسف لا ترغب الحكومة الإسرائيلية الحالية في الاتحاد مع القادة المحبين للسلام مثل عباس، من أجل تقديم أفق سياسي لكلا الشعبين وسبب يدعوهم إلى الأمل في مستقبل أفضل. والنتيجة أننا نشهد اليوم دوامة دموية لا نهاية لها لا ينجم عنها سوى ذهاب للأرواح، بل وتضيع فيها فرص حقيقية للسلام. *خدمة: "واشنطن بوست''