- أول ما ساق التعارف بيننا حينما عُيِّن محافظا لمحافظة بسكرة أوائل سنة 1984 خلفا للسيد حمّو بلحرش، وقد كنت إذ ذاك أمين اتحادية أولاد جلال للحزب، فقد صادف تعيينه على رأس المحافظة - رئيسا لمكتب ومجلس التنسيق الولائي- تجديدَ الهياكل القاعدية، كعادة الحزب إثر انعقاد كل مؤتمر عادي، وكان ذلك عقب انتهاء المؤتمر الخامس. وأوّل ما ساق ثقته فيَّ عندما كلّفَنا بالإشراف على تجديد الهياكل كلٌّ في اتحاديته، وككلِّ مرة، تتالت أصوات الاحتجاجات، وترادفت الطعون، وتهاطلت الشكاوى، وتشاء الصدف أن تمرّ الأمور بمنطقة إشرافي على أحسن وجه، ولم يتلقَّ، كونه المسؤول الأول، أيّةَ ملاحظة غير مَرْضيّة أو مُرضية، فقال لي، عندما انتهت عملية التجديد وقدّمتُ له عرضا مستفيضا عنها، باللغة الفرنسية : »vous êtes correct«. وأوّل ما ساق المودّة بيننا حينما ترشّحتُ لعضوية أوّل مكتب محافظة منتخب في تاريخ الحزب في الربيع ذاته، وفزت بالمرتبة الأولى، وكنت أصغر المترشحين، فكلّفني بمهمة التنظيم التي كانت تُلزمني بملاقاته يوميا، ومرافقته على الدّوام، والتزمتُ بدوري بذلك أشدّ الالتزام، فتعلّمتُ منه الكثير وعرفت عنه الكثير. - فبالرغم من أنّه لم يسبق له التعامل مع القواعد النضالية، نظرا لمهامه ومسؤولياته الوطنية السامية المتعددة، وذلك باعترافه الشخصي بدءا من طالب في الاتحاد السوفياتي أثناء الثورة التحريرية، ومرورا بما أوكل إليه من مهام جسام، لكنّ كان من خصوصياته سرعة البديهة فسرعان ما تفاعل مع المناضلين، وتجاوب معهم، وتجاوب مع انطباعاتهم وآرائهم، يعبّر عن اهتماماتهم ويطرح انشغالاتهم، وفي الواقع الحيّ يجسّد طموحاتهم، ويقرأ القراءة الصحيحة لإيحاءاتهم ورمزية ما يصدر عن قلوبهم، لينفذ من قلبه إلى قلوبهم في تبادل حميمي منقطع النظير قبولا وإيجابا. ومن مميزاته أنه كان يدعم الشباب دعما غير مشروط، وبخاصة المتعلّم منهم، وقد كان يرفض رفضا مطلقا قوائم الترشيح التي لا تحمل أسماء لشباب متعلمين، وكم أعادني إلى قسمة أو أخرى وإلى بلدية أو أخرى لإعادة إعداد القوائم وإدخال الشباب فيها وتطعيمها بهم، وإن كانوا غير مسجّلين في صفوف الحزب. ففي سبق سياسي فريد من نوعه، استغل التقسيم الإداري لسنة 1984 وقام بتشبيب هياكل الحزب عند تحديثها، وتشبيب المجالس الشعبية البلدية عند تجديدها، بالرغم من مفهوم طلائعية الحزب في النظام الشمولي، الذي يعطي الأولوية لمناضلين قدامى في احتلال المناصب، وبالرغم من آراء المعارضين المحليين من الزملاء الذين كانوا يشنّون حربا عليّ بدلا عنه لأنهم يخافونه، وذلك حظّي في كل مرّة، ففي هذه السلوكات المتنبئة بالمستقبل خاض معركة التجديد ومعركة الفكر بالاستشعار بالخطر، إذ بعث تقريرا من منصبه في قسنطينة إلى مسؤول الحزب إذ ذاك »محمد شريف مساعدية« رحمه الله، يتنبأ بأحداث سنة ,1988 التقرير الذي حدثني عنه مرارا كإنجاز فكري يفتخر به، وباحتقان عن تجاهلهم له، والذي لمّا عادوا إلى قراءته بتمعّن بعد أحداث 5 أكتوبر ,1988 كان السبب في اختياره عضوا بأمانة الحزب إلى جانب المرحوم »عبد الحميد مهري«، وإن اختلف معه فيما بعد، وبالرغم من ثقافته الاقتصادية اليسارية، كان من أبرز الذين خاضوا معركة التعددية بعد ترسيم دستور 1989 مع الجماهير الشعبية، مدافعا عن بقاء الدولة الوطنية، إلى أن عيّن مديرا لديوان رئاسة الجمهورية، في عهد الرئيس ''علي كافي'' رحمه الله، ثم سفيرا بليبيا كآخر منصب له. - سنتان كاملتان من المصاحبة المباشرة كان فيها حريصا للّقاء بالمناضلين والمواطنين، ليس في النهار فحسب بل إلى الهزيع الأخير من الليل، وقد كان بمثابة المدرّس الناصح والأب الرحيم للجميع، وإن حُجّتي في شهادتي هذه أنّي سجّلتُ جُلَّ ما قال في دفاتر خاصة، وفي كلّ المناسبات، وأعترف أني تعلّمت منه الكثير من فنّ الجاذبية في الخطابة، وفن التشويق فيها، ومن إحضار الحجج والأدلّة تطبيقا لما يقول، لم يكن زامحمد سعيديس رحمه الله غوغائيا أو ديماغوجيا، لأنّ ثقته في نفسه وفيما يقول كانت كبيرة كِبر اهتمامه بأداء مهامه على أحسن وجه، لقد كان طيّب الله ثراه، وطنيا حدّ النخاع وموسوعة ثقافية متعددة المجالات والمواهب، حتى أنّه يُعدُّ من القلائل الذين يصعب تعويضهم ويستعصي إعطائهم حقّهم في هذا المجال وفي الملمح النضالي المثالي، إنّه من جيل من ذهب ليس ككلّ الأجيال. وداعا أيها الأستاذ الأستاذ، يا من تركت فينا الانطباع الطيّب والذكر الحسن.. وداعا يا صاحب الفضل.. نم قرير العين امحمّد سعيدي..!؟