في شهر نوفمبر القادم يكون قد مر على اندلاع ثورة التحرير ستون سنة، ومع ذلك فإن محترفي الفكر والثقافة، في بلادنا، مازالوا يتساءلون عن حقيقة ما وقع في الجزائر ابتداء من ليلة الفاتح نوفمبر عام أربعة وخمسين وتسعمائة وألف حتى يتمكنوا من تقديمه في صورة واضحة إلى أجيال ما بعد استرجاع الاستقلال الوطني. فالذين كرعوا من معين الفرنسيين يتحدثون عن حرب الاستقلال أو حرب التحرير الوطني وهناك، منهم، من لا يزال يستعمل تعبير الأحداث أو أحداث الجزائر وهو ذات التعبير الذي كان سائدا في أوساط من كانوا يسمون بالفرنسيين التقدميين. إنهم لم يتوقفوا عند المعاني الصحيحة لكل هذه التعابير. ولو فعلوا ورجعوا إلى أدبيات أطراف الحركة الوطنية لاستغنوا عن كل ذلك، لأن حرب الاستقلال إنما تقع عندما يتعلق الأمر بالعمل على تحقيق الانفصال عن الوطن الأم مثل ما حدث بالنسبة لأمريكا مع بريطاني العظمى خلال القرن الثامن عشر. أما الجزائر فإنها لم تكن جزء من فرنسا، بل كانت دولة ذات سيادة معترف بها في الداخل وفي الخارج كما تؤكد ذلك سجلات التاريخ التي ما زالت تحتفظ بما كانت لها من مكانة رفيعة بين الأمم وبما كان لها من تأثير على سير الأحداث الدولية، تشهد على ذلك تحركات الأسطول الجزائري لتحرير بعض موانئ فرنسا وتخليصها من احتلال زعيمة النظام القديم المدعوم من دار الخلافة نفسها. وفي حالة ضعف، تعرضت دار الجهاد للاعتداء العسكري الفرنسي، كما هو معلوم، ثم غيبت نهائيا وراحت سلطات الاحتلال تستعمل كل الوسائل لإخراج شعبها من مسرح التاريخ وتفكيك أواصر المجتمع فيها وتحويل اقتصادها الذي كان مزدهرا، إلى ذيل مكمل للاقتصاد الفرنسي. إن حالة الضعف والانكسار أمام قوات أجنبية ليست خاصة بدولة دون أخرى، بل إن الأمثلة كثيرة في مختلف مراحل التاريخ. وقريبا منا فقط، فإن فرنسا ذاتها قد استسلمت لألمانيا وكذلك بولونيا وتشيكوسلوفاكيا نتيجة تفوق القوة المعتدية لكن ذلك لم يتحول إلى احتلال استيطاني وسرعان ما استرجعت تلك البلدان سيادتها وقررت مصيرها. كان يمكن أن يحصل للجزائر ما وقع لتلك الدول، لكن عاملين آخرين تدخلا في الموضوع وهما العامل الديني والعامل الاقتصادي. فالجزائر مسلمة وحقد الكنيسة كان دفينا ينتظر ساعة الانتقام، مع العلم أن الصراع بين المسيحية والإسلام قديم قدم التاريخ. ولقد وجد ''بابا الفاتيكان'' فرصة في العدوان الفرنسي فرفع شعار الحرب المقدسة ز لاسترجاع مكانة الصليب في إفريقيا التي طرده منها هلال الإسلامس. أما عن العامل الاقتصادي، فإن فرنسا كانت متضايقة من الديون المترتبة في ذمتها والمعترف بها رسميا وفقا لعقد موقع من طرف الملك لويس الثامن عشر ومؤرخ في سنة 1819 والمقدرة، في حينها، بمبلغ سبعة ملايين ونصف مليون فرنك ذهبي. فاحتلال الجزائر يمسح كل هذه الديون ويمكن من استغلال خيرات البلد الذي كان يدعى مخزن روما. ومن جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أن سلطات الاحتلال تراكمت لديها، إضافة إلى المعلومات المتعلقة بازدهار الاقتصاد الجزائري، أخبار متواترة عن تحطم معظم وحدات الأسطول الجزائري أثناء معركة '' نافرين''، بالإضافة إلى تحرك الجزائر العلني في سبيل تجديد الأسطول العثماني وتدعيمه بالعتاد والذخيرة كي يتمكن من التصدي للتمرد الداخلي المدعوم من الدول المسيحية العظمى التي كانت تسعى، بكل الحيل، لتفتيت الخلافة الإسلامية وكسر شوكتها. في هذا الإطار يمكن الرجوع إلى التقرير الذي كتبه السيد ''تادنه'' وقدمه لسلطات الإمبراطورية الفرنسية في أيام عزها، لكنه ظل غير مستغل نظرا للمكانة البحرية التي كانت تتمتع بها الجزائر قبل هزيمة ز نافرينس التي أصابت الأسطول العثماني وكلفت الجزائر عددا من سفنها الحربية ومن خيرة بحاريها. يقول التقرير:س إن مناخ الجزائر جميل وأرضها طيبة. توجد بها مراع شاسعة وسهول فسيحة، وتكثر فيها منتوجات أمريكا والهند بالإضافة إلى ما تنبت في أراضي أوربا. كما أنها تنتج كميات هائلة من القمح والشعير والصوف والشموع والجلود. أما مراعيها فتزخر بأنواع الحيوانات المختلفة مثل ألأبقار والأغنام والماعز والخيول والبغال والحمير الممتازة''. ويدعم هذا التقرير ما ورد في مذكرات السيد ''وليام شالر'' قنصل أمريكا في الجزائر من سنة 1816 إلى سنة .1824 وأما الذين صهرتهم التجارب النضالية التي ظلت تنمو وتتجدد، فإنهم آمنوا، منذ الوهلة الأولى، بأنها ثورة قرر مفجروها استعمال جميع الوسائل لتحقيق أهدافها التي تتمثل داخليا في إعادة بناء الدولة الجزائرية في شكل ز جمهورية ديمقراطية اجتماعية سيدة ضمن المبادئ الإسلاميةس وترمي، خارجيا، إلى ز توحيد شمال إفريقيا في إطاره الطبيعي العربي الإسلاميس ومساندة جميع قضايا التحرير والتحرر في العالم. وإذا كانت حرب التحرير( أي الكفاح المسلح) تأتي في مقدمة تلك الوسائل لبلوغ ذلك، فإن التطهير السياسي ومحاربة الفساد والقضاء على روح الإصلاح الذي تستعمله إدارة الاحتلال لتخدير طلائع التشكيلات السياسية، إلى جانب توعية الجماهير الشعبية الواسعة وتجنيدها، كلها، تشكل وسائل أخرى لا تقل أهمية عن العمل الحربي والتي، من دونها، لا يمكن أن ينجح نظرا لتفوق إمكانيات العدو في مجالي العدة والعتاد العسكريين خاصة، لأجل ذلك فإن تعبير ''حرب التحرير ''، الذي صار مستعملا بكثرة خاصة في أوساط المتفرنسين، غير مقبول ويجب رفضه والتصدي بقوة لانتشاره. هذا النوع من الجزائريين هو الذي أنجب أمثال الدكتور محمد الأمين دباغين الذي كان ، سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وألف، قد اعتلى منبر البرلمان الفرنسي وتوجه إلى النواب بخطبة عصماء جاء فيها على وجه الخصوص: '' إن الشعب الجزائري قد فوضنا، نحن المنتخبين الوطنيين، لنعلن، من خلالكم، للشعب الفرنسي وللعالم أجمع أن الجزائر لا تعترف بالأمر الواقع الناتج عن احتلال عام ,1830 وأن الجزائر ليست فرنسية وأنها لم تكن كذلك أبدا، وهي لا تعترف لفرنسا بحقها في تزويدها بقانون أي كان نوعه. وفوق كل اعتبار، فإن الشعب الجزائري لن يقبل أي حل لا يضمن بالدرجة الأولى عودة السيادة الوطنية، وهو يرى أن من حقه ومن واجبه أن يحدد مصيره وأن يختار المؤسسات السياسية التي تسيره. وفي الواقع، فإن الاعتراف لأية حكومة حتى ولو كانت هي الحكومة الفرنسية بحقها في تزويد الجزائر بقانون، يعني الاعتراف بالأمر الواقع الذي أحدثه الاحتلال في الجزائر ضد حقوق الإنسان والمصالح المقدسة للشعب الجزائري. ويكون معنى ذلك أننا نتنازل بمحض إرادتنا عن سيادة شعبنا الوطنية. وهذا أمر لن يقع أبداس. ''إنه، في مثل هذه الحالات، لا يمكن أن تختلف التفسيرات لحدث واحد. فتشيكوسلوفاكيا فقدت سيادتها جراء عدوان إمبريالي لكنها احتفظت بحقها في الاستقلال وهي، اليوم، قد عادت حرة من جديد....... كذلك الأمر بالنسبة للجزائر فإنها رغم كفاحها البطولي قد فقدت سيادتها على إثر حرب خسرتها. إن الجزائر، حسب رأينا ورأي كبار المؤرخين الذين اهتموا بموضوعها، لم تكن فرنسية أبدا. كل شيء يثبت ذلك. إن سلطات الاحتلال لم تتوقف عند إخراج جماهير الشعب الجزائري من مسرح التاريخ (مصادرة أراضيها الخصبة توزعها، بالمجان، على الأجناد المسرحين وعلى الأوربيين الذين رافقوا الجيوش المعتدية) بل إنها، بعد أن استتب لها الأمر، تجاوزت ذلك إلى العمل، بجميع الوسائل، على تشويه عناصر الشخصية الوطنية وإفراغ التاريخ الجزائري من كل محتوياته الإيجابية. لأجل ذلك، فإن جميع أطراف الحركة الوطنية كانت، فعلا، تدعو، كل حسب مفهومه للنضال، إلى استرجاع الاستقلال الوطني(le recouvrement de l'indépendance nationale) ولم يكن ذلك مجرد تعبير لغوي لكن الأمر كان أيديولوجيا لأن تلك الأطراف كانت تؤمن بأن الاستقلال الوطني كان، قبل العدوان الفرنسي، حقيقة بمعناها الكامل، ومن ثمة فإن التعبير الصحيح يكون هو ''استرجاع الاستقلال ''وليس ''تحقيق الاستقلال'' أو زانتزاع الاستقلالس أو زافتكاكهس كما هو شائع عند كثير من الناس العاديين والمسئولين منهم على حد سواء. وبعبارة أخرى، فإن الأمر يتعلق بموقف سياسي يتضمن جوابا صريحا للذين كانوا يزعمون أن تزييف الانتخابات وممارسة الظلم والتعسف وتطبيق القوانين الاستثنائية الجائرة وحالة الفقر والجهل والتهميش هي التي تقف وراء اللجوء إلى الكفاح المسلح كوسيلة للاستقلال عن الوطن الأم . كل أطراف الحركة الوطنية، من دون استثناء، كانت تعمل على إعادة الاعتبار للدين الإسلامي بتخليصه من هيمنة الاحتلال ومن سائر أنواع التشويه، وتنادي بضرورة تعميم تعليم اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية المعتدى عليها. وإلى جانب الدين واللغة عملت أطراف الحركة الوطنية على تضمين برامجها السياسية ضرورة تطهير التاريخ الوطني وتعليمه للأجيال باعتباره الإسمنت الذي يضمن تلاحم المجتمع ويعيد الثقة في النفس ويفتح، واسعة، آفاق المستقبل. ن الخلط لم يكن، فقط، في تسمية ما وقع ليلة الفاتح نوفمبر سنة أربع وخمسين وتسعمائة وألف، بل إن التعتيم موجود في المحاور الأساسية الواردة في البيان حيث نجد أن عبارة زإعادة بناء الدولةس في الهدف الأول، قد استبدلت بعبارة ''إقامة الدولة''. يقول بعضهم: إن الخطأ قد ترتب عن سوء الترجمة إذ أن ''إقامة الدولة'' لا تعني أبدا Restauration de l'Etat المنصوص عليها في البيان الأصلي المكتوب باللغة الفرنسية. والواقع، إن التذرع بسوء الترجمة غير معقول لأن ستين عاما وقت أكثر من كاف لإصلاح خطأ في الترجمة لو كانت النوايا صادقة. لقد كانت عملية استمرار الثورة تستلزم تحكما دقيقا في المفاهيم والمصطلحات التي يشترط في وضعها معرفة حقيقية بالواقع المعيش. والذين صاغوا البيان لم يفعلوا ذلك من فراغ، بل إنهم انطلقوا من منظومة أفكار أطراف الحركة الوطنية التي كانت، رغم التباين في طريقة العمل، تنادي بضرورة إعادة الربط مع جزائر ما قبل العدوان، وتدعو إلى حتمية تعليم الشعب تاريخه الحقيقي الذي يختلف كلية عن ما تعلمه المدرسة الكولونيالية. إن العودة إلى سجلات التاريخ، بغير مفاهيم ومصطلحات مدرسة التاريخ الاستعمارية، يدلنا دلالة قاطعة على أن الجزائر، قبل العدوان الفرنسي سنة ,1830 كانت كيانا سياسيا وقانونيا قائما بذاته. معنى ذلك أنها كانت تسير من طرف جهاز بيروقراطي مدني وعسكري له صفات تتجاوز شخصانية المسئولين عليه والمتعامل معهم، أي تتوفر فيه مجموعة من القوانين التي تقنن الواجبات والحقوق وتحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وكل هذه الحقيقة تشكل العنصر الأول من عناصر التعريف بالدولة. وكانت قائمة، كذلك، السلطة السيادية التي تمثل ثاني عناصر التعريف بالدولة، حيث كان لهياكل القوة الرسمية وحدها، دون غيرها، مشروعية ممارسة الحق في اتخاذ القرار بجميع أنواعه وتنفيذه بجميع الوسائل. ■ يتبع