توقفنا، في الحلقة السابقة، عند السبب الثاني من الأسباب التي حالت دون تجسيد تحرير الأرض وتحرير الإنسان على أرض الواقع، وفي هذه الحلقة نستأنف، ونبدأ بذكر السبب الثالث وهو يتمثل في عدم ارتياح أطراف الاحتلال الفرنسي للنتائج المترتبة عن اتفاقيات أيفيان رغم كل ما تضمنته هذه الأخيرة من منافذ واسعة للاستعمار الجديد ومن وسائل أكيدة لتواصل الغزو الثقافي بجميع أشكاله و بكل معانيه. أما المنظمة السرية المسلحة المدعومة من أغلبية الأقدام السود ومن غلاة اليمين الفرنسي المتطرف، فإنها قد لجأت إلى سياسة الأرض المحروقة مستهدفة المنشآت الاقتصادية والثروة البشرية مع التركيز على إتلاف كل ما من شأنه المساعدة على إعادة بناء الدولة الجزائرية بكل مقوماتها الأساسية. ولأنها كانت تدرك أن المعرفة أساسية لإنجاح تلك العملية فإنها خصصت جزءا كبيرا من نشاطها الهدام لقتل المتعلمين وحرق المكتبات. ومما لا ريب فيه، أن المنظمة المذكورة قد خلدت اسمها في سجل التنظيمات المبدعة في جرائم الحرب ضد الإنسانية، وعلى الرغم من ذلك، فإن قادتها العسكريين والمدنيين لم يتعرضوا لا للمتابعة القضائية ولا لأي نوع من العقاب، بل أنهم، في الآونة الأخيرة، قد تمكنوا من إقناع بعض الجهات السياسية في فرنسا لإقامة نصب تذكارية تدرجها في مكونات التراث الايجابي للسياسة الكولونيالية الذي تعمل الحكومة الفرنسية على تبليغه للأجيال الصاعدة. كما أنهم استطاعوا أن يطبعوا وينشروا عشرات الدراسات والمذكرات المشوهة للتاريخ والمزيفة للوقائع والتي وجدت أرضا خصبة في الجزائر جراء الفراغ الثقافي وغياب الدولة الوطنية لأسباب متعددة. أما المؤسسات الرسمية في ظل سائر الحكومات المتعاقبة دون أدنى تمييز بين اليسارية منها واليمينية، فإنها وظفت اتفاقيات أيفيان لإبقاء حالة التبعية الدائمة. من ذلك أنها وفرت كل الشروط اللازمة لتكون وسائل إعادة بناء الدولة الجزائرية بين أيدي الإطارات التي كونتها إدارة الاحتلال أساسا لحماية المصالح الاستعمارية أو للدفاع عن الكيان الكولونيالي. وبالموازاة مع ذلك، ولأن الإطارات المذكورة مفرنسة أو نصف مفرنسة، فإن الجنرال زدي غولس الذي لم يستسغ أنه كان المهزوم الذي ضاعت منه ز الجزائر الفرنسيةس قد جند كل الإمكانيات المعنوية والمادية لتبقى العدالة والتعليم والثقافة والإعلام متفرنسة. فعل ذلك ليجعل انتصار جبهة التحرير الوطني ينقلب بالتدريج إلى هزيمة، مع العلم أن القانون الاستعماري الذي اشترطت اتفاقيات أيفيان استمرار تطبيقه لا يمكن أن يكون أداة صالحة لتحقيق العدالة الضرورية لإعادة بناء المجتمع الجزائري طبقا لأدبيات الثورة التحريرية خاصة وأن القانون المذكور قد ظل منذ عام 1830 يسلك كل المتاهات الغير إنسانية لتكوين تلك الآلة الجهنمية التي يستعملها غلاة الكولون لقمع أبناء الشعب الجزائري وفي مقدمتهم كل المجاهدين والمتنورين الرافضين للاحتلال. وكانت الازدواجية، في التعليم، المفروضة على الجزائر بموجب اتفاقيات أيفيان كارثة الكوارث، لأنها جسدت هزيمة أطراف الحركة الوطنية التي كانت كل أدبياتها تنادي بوجوب استعمال اللغة العربية في التعليم وفي كل المعاملات الرسمية. ولأنها كرست الرداءة في المدرسة الجزائرية التي، رغم كل ما بذلت من جهود، لم ترق إلى المستوى الذي يمكن من تكوين الإنسان الحر القادر على ضمان استمرارية الثورة التي كانت نصوصها الأساسية تؤكد أن تحرير الأرض وتحرير الإنسان عمليتان متلازمتان يتوقف نجاح إحداهما على مدى نجاح الثانية، إذ أن الإنسان الحر لا يعيش إلا في أرض حرة. وفي المجال الاقتصادي، ونتيجة واقع الإطارات المشار إليهم أعلاه والذين كانت قبلتهم باريس وقدوتهم غلاة الكولون الذين أشرفوا على إعداد أغلبية منهم، فإن كلمة إخضاع الاقتصاد الجزائري إلى الاقتصاد الفرنسي عاجزة عن وصف العلاقة التي أقيمت بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. 4 -الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بعد أن كان المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد أعاد تعيينها من جديد وكلفها بمواصلة مهامها إلى غاية انعقاد المؤتمر الوطني لجبهة التحرير الوطني بداخل البلاد. إن خطورة الانقلاب المذكور لا تكمن فقط في كونه نقل السلطة الفعلية كلها من أيدي المدنيين إلى المؤسسة العسكرية بل تكمن ، كذلك ، في إنهاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي كان في دورته الأخيرة مكونا من مجالس الولايات التاريخية و من عدد من القادة الذين اقترنت أسماؤهم بمسار الثورة، وبذلك فرض مبدأ أولوية الخارج على الداخل. وللتذكير، تجدر الإشارة إلى أن الانقلاب العسكري المشار إليه قد وقع في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو سنة 1962 وأنه هو الذي أدخل البلاد في متاهة اللاشرعية التي يستحيل معها ضمان استمرارية الثورة. ذلك أن الإعلان الأحادي عن تكوين مكتب سياسي من سبعة أشخاص لم يكن ليرضي معظم التيارات السياسية التي كانت تنتظر انعقاد المؤتمر الوطني لجبهة التحرير الوطني طبقا لتوصيات المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورة طرابلس التي أعادت الثقة للحكومة المؤقتة وكلفتها بمواصلة مهامها الرسمية إلى غاية انعقاد المؤتمر المذكور. فالارتكاز على الولايات التاريخية الأولى والخامسة والسادسة المدعومة بجيش الحدود من أجل إقصاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائريةوالولايات التاريخية الثانية والثالثة والرابعة والسابعة، وإنهاء دور المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي كان هو القيادة العليا لثورة نوفمبر 1954 قد أضفى على التغيير طابع اللاشرعية، وأحدث أزمة سياسية وعسكرية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من المواطنات والمواطنين وترتب عنها تهميش مئات الإطارات الفاعلة ممن تجرؤوا على معارضة الانقلاب ووقفوا، بكل ما لديهم من إمكانيات، يدافعون عن الشرعية الثورية ويطالبون بتنفيذ مقررات مؤتمر طرابلس خاصة فيما يتعلق بعقد المؤتمر الوطني الذي يكون له حق الفصل في القضايا العالقة والتي يأتي في مقدمتها تعيين القيادة السياسية واختيار نظام الحكم الذي يكون قادرا على ضمان استمرارية الثورة وفقا لنصوصها الأساسية بدءا ببيان أول نوفمبر وانتهاء ببرنامج طرابلس. فبدلا من العمل على توفير الشروط الموضوعية لحل هذه الأزمة بالطرق السلمية، فإن السلطات المنبثقة عن المكتب السياسي المسطور أعلاه قد استمرت في تجاهلها للقوى المهمشة مسلطة عليها أنواعا من الإرهاب وهو الأمر الذي أدى إلى نشوب أزمات سياسية وعسكرية أخرى تسببت، بدورها، في إراقة الدماء وإقصاء العديد من الكفاءات. ولمجرد التذكير نشير إلى استقالة المرحومين محمد خيضر ورابح بيطاط وكذلك استقالة الرئيس فرحات عباس وإلى الحركة المسلحة التي قادها السيد حسين آيت أحمد والأخرى السياسية التي تزعمها السيد محمد بوضياف مع العلم بأن الحركتين انتهتا إلى تشكيل جبهة القوى الاشتراكية بالنسبة للأول وحزب الثورة الاشتراكية بالنسبة للثاني. إن الحقيقة ليست حكرا على أحد، وإن المسؤولية مهما علت لا تؤهل للتنظير ولا تعطي لصاحبها حصانة تحول بينه وبين الأغلاط والمغالطات. وفوق كل شيء، فإن الواحد منا يجب أن يدرك بأن ثمة ضوابط لابد من عدم الاعتداء عليها وخطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها في تعاملنا مع التاريخ. صحيح أن المنتصر يبدو دائما، محقا في أعين الناس، وتبدو نظرياته هي المثلى. أما المهزوم فينفض الناس من حوله حتى ولو كان صاحب حق بيّن. هذه سنة الله في خلقه، ولنا في التاريخ، بجميع حقبه، أمثلة كثيرة يمكن الرجوع إليها. وقريبا منا جدا مثل الحاج مصالي ومساره الذي لم يدرس حتى الآن دراسة علمية تأخذ في الاعتبار جميع المعطيات وتوظف سائر المعلومات وتتوقف، مليا عند كافة النصوص والوثائق التي لها علاقة بالموضوع. إن شخصا واحدا لا يمكن أن يكون مرجعا شافيا لمعالجة تاريخ ثورة نوفمبر 1954 من كل جوانبه. فتلك مهمة مؤسسات الدولة التي ينبغي أن يشرف عليها وينشطها ذوو الاختصاص. لكن مثل هذه المؤسسات غير موجودة في بلادنا اليوم لأن قادتنا، حتى الآن، لم يدركوا أن كتابة التاريخ وإعادة كتابته ضرورة ملحة لفهم الحاضر ولبناء المستقبل. وما لم نتمكن من القضاء على الضبابية المحيطة بكثير من القضايا ذات الأهمية القصوى وعلى التزييف والتشويه اللذين تعمدتهما مدرسة التاريخ الاستعمارية قصد إبقائنا في حالة الضياع المطلق، فإننا لن نجد الطريق الصحيح الذي يقود إلى استرجاع السيادة والاستقلال الوطنيين. ولا أعتقد أنني أسيء إلى القراء إذا قلت إننا، في الجزائر، مصابون بداء النرجسية ومعقدون خاصة مما قد يصدر عن بعضنا. أما ما يقوله الآخرون فيمر مر السحاب حتى ولو كان مثقلا بأنواع الإذلال والإهانةة. وعندما نعلن اليوم ، أحزابا وحكومة وشعبا ، عن ابتهاجنا بإحياء الذكرى الستين لاندلاع ثورة نوفمبر المجيدة، فإننا مطالبون ، قبل كل شيء بمساءلة أنفسنا عن مدى تمسكنا بمنظومة الأفكار التي ضحى في سبيل تطبيقها على أرض الواقع ملايين الشهداء من أبناء الشمال الإفريقي . وإذا كنا صادقين، فإن الجواب سيكون سلبيا لأن كل المساعي الصادقة التي ميزت نضال الأسلاف قد اختفت، وتركت مكانها للنقيض الذي هو من وحي أعداء الأمس الذين يرفضون اتحادنا ويسعون، بكل الوسائل، للقضاء على هويتنا وإبقائنا في حالة التبعية الدائمة. إننا، عندما نستعرض سجلات التاريخ الإنساني، سوف نجد أن الثورات، جميعها، لا تخلو من الهزات والزلازل التي تحدثها حركة التطور السريع الذي يفرض نفسه جراء إشراك الجماهير الشعبية الواسعة في تسيير شؤونها بواسطة الإسهام الفعلي في اتخاذ القرارات، وفي العمل على تنفيذها. لكن القيادات الوطنية المتنورة تعرف، دائما، كيف تتصدى لها حتى لا تتحول إلى منطلقات للثورة المضادة وحتى لا تكون منافذ يستغلها الأعداء لزرع بذور الانقسامات بجميع أنواعها والآفات الاجتماعية القاتلة. وعلى سبيل المثال نتوقف عند تجربة الثورة الفرنسية ونتأمل كيف أن القيادة الثورية انتبهت إلى أن الفكر الثوري ضرورة حتمية تختلف آلياته عن آليات غيره، ومن ثمة قررت حل كل المجامع العلمية التي كانت موجودة قبل عام 1789 وأحلت محلها تنظيما ملائما للمرحلة الجديدة أطلقت عليه تسمية ز المعهد الوطني للعلومس . اشتمل المعهد المذكور، في ذلك الوقت، على ثلاثة أقسام هي:قسم علوم الأخلاق والسياسة، وقسم العلوم الطبيعية وقسم الآداب والفنون الجميلة. ودعي رجال الفكر والثقافة، ممن كان لهم إنتاج و ممن كانت لهم شهرة في مجال العطاء الفلسفي خاصة والمعرفيين بصفة عامة، فحبسوا أوقاتهم على التحليل والمناقشة بحثا عن الحقيقة وإرساء قواعد البناء الصلب الأصيل الذي لا تؤثر فيه الحزازات الشخصية ولا يتأثر بالهزات الخارجية. قال فولني، وهو واحد من أبرز أولائك المفكرين:إنه كلما وقف الناس عند مشاهدة الأشياء الواقعة، كما هي واقعة، اتفقوا عليها، وأما إذا رأيت بينهم خلافا في الرأي، فاعلم أنهم، عندئذ، قد جاوزوا حدود الأشياء الواقعة، ولم يقفوا بمشاهدتهم لها عند ظاهرها المريء المحدود، وإذن فكل ضروب الخلاف بين الناس، بل إن ما يصيبهم من تفكك اجتماعي، إنما ينشأ حين يتصدى الناس في أحاديثهم لأمور تستحيل على المراجعة والتحقيق على أساس الخبرة الحسية وحدها ز. ومن الجدير بالذكر أن كل تلك الإجراءات الثورية قد صاحبتها حركة فكرية واسعة، كان ينشطها مثقفون من الطراز العالي أمثال دوتراسي وبيار بريفو وجوزيف دوكراندو، وتميزت بطريقة المساءلة قصد التوصل إلى قتل الموضوعات بحثا. وكانت الأسئلة تطرح في شكل مسابقة تتوج بجوائز ومكافآت متفرقة، يجد القارئ معلومات ضافية حولها في الكتب الكثيرة التي عنيت بتاريخ الثورة الفرنسية. بهذه الطريقة استطاعت الثورة الفرنسية أن تضمن استمراريتها وأن تحافظ على معظم المبادئ النبيلة التي بشرت بها وهي ذات المبادئ التي ما زال الشعب الفرنسي يعتز بها ويحاول المحافظة عليها. أما نحن، في الجزائر، فإننا أوكلنا التعريف بمنظومة أفكار جبهة التحرير الوطني إلى أعداء الأمس فشوهوها وزيفوا مقاصدها ثم دفعوا بنا في متاهة الانحرافات والفوضى التي ترتب عنها تنكر الجيل الجديد للتاريخ الوطني بسبب جهله له. ( وللحديث بقية. ■ يتبع