تأكدنا بالملموس وكل من تابعوا الموكب الجنائزي الشعبي المليوني المهيب للفقيد الراحل حسين آيت أحمد أن القيمة الحقيقية لأي كائن كان هي في أعماق شعبه، وأن هذا الشعب هو القادر على تقديرها، والصادق في هذا التقدير، وأن ما حظي به جثمان الفقيد من احتضان وتعاطف منقطع النظير هو أرفع وأنبل وأطهر قيمة على الإطلاق، لا تضاهيها أية قيمة، لا قيمة المال ولا قيمة الجاه ولا قيمة السلطة، أحبّه شعبُه وأعزّهُ فانساق وراءه من دون جزاء أو شكور حيث مثواه الأخير في مسقط رأسه بالتهليل والتكبير والاحترام والتقدير والعرفان بالجميل. تلك صورة ناصعة البياض، وتعني الكثير الكثير: أول ما تعنيه أن الشعب الجزائري يرى ويسمع، ويُقيم الوزن لأبنائه المخلصين، ويشهد مع نفسه ومع الله سبحانه وتعالى أن هذا الرجل البطل قدّم وأعطى لوطنه، كافح وناضل وضحّى، ودفع الكثير من أجل شعبه. وثاني ما تعنيه دلالات هذه الصورة الناصعة البياض، أن الشعب الجزائري يعي ما يفعل، ناصر من ناصر العدل والحق، انتصر له أمام الله لغاية مقام أمه، وجدّه الوليّ الصالح، شهد له اليوم في مماته أنه بايعه في كل ما كان يطالب به، ويسعى من أجل تجسيده داخل بلده، وهو بالتأكيد مقتنع تمام الاقتناع أنه سيواصل عهده، ويستمر في نهجه، لأن الرجل كان مخلصا لوطنه ولشعبه في كل ما ذهب إليه، وناضل وكافح وتعذب وشقى من أجله. والأبرز فيما رآهُ الشعب في حسين آيت احمد رحمه الله وطيب ثراه أنه يعلم أنه من الرعيل الأول لثورة نوفمبر المباركة التي حررت البلاد، وأخرجت المستعمر الفرنسي الغاشم من أرضنا، وأنه هو أحد مفجريها الأشاوس، لم يظلم الشعب، ولم ينهل من ماله. بل هو من أعطى المال لثورة هذا الشعب. ورغم ظلم وعدوان ذوي القربى عليه وهي أشد مرارة لم يحقد عن الوطن ولا عن الشعب، وظل وفيا مطيعا خدُوما لهما حتى في أعسر الظروف وأحلكها، وليس أكثر عُسر وخطورة وحلكة من مرحلة " تمريغ البلاد والعباد في أوحال الدماء " سنوات التسعينات ، حين تمّ توقيف المسار الانتخابي، وفقدت السلطة ومعارضوها بوصلة التسيير والسير الراشد، ودخلت البلاد في دوامة لا حدود لها من اللاّرُؤية، ومن الظلم والقهر والحيف الاجتماعي والجلد الذاتي، المُرصع بالتصفيات الدموية الرهيبة، حينها مازلت كمواطن جزائري وكإعلامي أّذكر الجهود السياسية المضنية التي قام بها هذا الرجل بصورة فردية، وجماعية داخل الوطن وخارجه، وكان أبرزها انخراطه بقوة ومن دون أي تأخير أو تردد في مساعي وقف نزيف الدم الحاصل في الجزائر. والبحث عن حل يُجنّبُنا سقوط المزيد من الضحايا وغلق أبواب تيتيم الأطفال وترميل النساء وهدم مقدرات الوطن، ويُمكّنُنا من فتح صفحة الإخاء والتصالح والتسامح بين كافة الجزائريين والجزائريات، وللأسف مازالتُ وحتى يومنا هذا أذكر وبكل مرارة كيف أن الرجل الفذّ ومعه رفيق دربه في الحركة الوطنية سي عبد الحميد مهري خُوّنا في محطة " سانث إيجيديو " التي كانت تهدف بكل وطنية وصفاء وإخلاص لوقف نزيف الدم في الجزائر، رغم أن الجميع يعلم أن كليهما من الرموز الكبرى للحركة الوطنية التي أخرجت المستعمر، وأنجبت الاستقلال، وما كانا ينويان القيام به هو جمع السلطة والمعارضة، ووقف الكارثة التي حلّت بالوطن والشعب، وقد تعرّضا آنذاك لحملة إعلامية وسياسية لا وطنية شرسة. وما أذكره وبكل مرارة حتى الآن هو حين تقربت منه في تجمع شعبي نظمه بساحة الجمهورية في باريس أيام كانت الأمور ملتهبة في الجزائر، شارك فيه مئات آلاف المهاجرين الجزائريين، من أجل وقف نزيف الدم وإنقاذ البلاد، وأبلغني أحد مُقرّبيه أنه هو نفسه مهدد بالاغتيال، وسيُلقي خطابه جالسا من على كرسي متحرك تجنبا لأي مكروه لا قدّر الله ألقاه جالسا بالفعل وهو ما حزّ في نفسي وآلمني، وأعاد إلي مواجعي أنا أيضا.