طرح قرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة القاضي بحل مديرية الاستعلامات والأمن وتعويضها بجهاز جديد يسمى "مديرية المصالح الأمنية"، علامات استفهام كثيرة حول الأهداف الحقيقية لهذا التغيير الهام جدا، هل الأمر يتعلق فقط بالتخلص من جهاز كثرت حوله الجدل فيما يسمى ب "الصراع" بين المخابرات والرئاسة، أم يرتبط بعملية تغيير فرضتها التحديات الأمنية الكبيرة التي تواجهها الجزائر، أم يستجيب فقط لمواصلة تنفيذ مشروع قديم يهدف إلى "تنقية" المشهد السياسي من مظاهر الأمن، وتتويج مسار إزاحة العسكر من المجال السياسي. لم يفاجأ المرسوم الأخير الذي أصدره رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة والقاضي بإعادة هيكلة جهاز المخابرات، فالتغييرات ومسلسل الإقالات أو الإحالة على التقاعد وحتى المتابعات القضائية التي مست قيادات في دائرة الاستعلامات والأمن "الدي أر أس"، قدمت منذ البداية مؤشرات واضحة وصريحة عن مشروع جديد يقضي بحل دائرة الاستعلامات وتعويضها بجهاز جديد يسير وفق النمط المعروف في العديد من البلدان الغربية المتطورة، بحيث تضم دائرة أو "مديرية المصالح الأمنية"، ثلاث مديريات فرعية بقيادة اللواء عثمان بشير طرطاق، الذي أصبح، وفق الكثير من المراقبين، يمثل رجل ثقة الرئيس بوتفليقة الذي عينه وأوكل له مهمة تسيير دائرة الاستعلامات والأمن بعد إقالة المسؤول السابق على"الدي أر أس" الفريق محمد مدين، المعروف باسم "توفيق". يتكفل الجهاز الجديد بكافة الملفات الأمنية والأمن الداخلي ومكافحة التجسس والتنسيق بين الجيش والأجهزة الأمنية المختلفة، والإشراف على التحقيقات في القضايا الحساسة للأمن الداخلي ونقل الرئيس بوتفليقة تبعية الجهاز الجديد إلى الرئاسة بدلا من وزارة الدفاع، خلافا لما ما كان معمولا به في الجهاز السابق، وهذه نقطة في غاية الخطورة والأهمية سوف نعود إليها فيما بعد عند قراءة القرار من زاوية مشروع "تمدين" الدولة وفق التعبير الذي أصبح شائعا في أدبيات الخطاب الرسمي وحتى الحزبي والإعلامي. لابد بد من توضيح مسألة مهمة هنا وهو أن غياب عامل المفاجأ يرجع أساسا إلى القرارات الكثيرة التي سبقت صدور هذا المرسوم الرئاسي، الذي يأتي في واقع الأمر في سياق استكمال الرئيس بوتفليقة لعملية إعادة هيكلة جهاز المخابرات السابق، حيث كان الرئيس بوتفليقة قد أقر منذ منتصف عام 2014 سلسلة قرارات شملت إلغاء هيئات ومكاتب أمنية تابعة لجهاز المخابرات السابق، وحل وحدات أمنية أو نقل تبعيتها من المخابرات إلى هيئة أركان الجيش، حينها كانت كل الخطوات مفاجأة بل ومباغتة بالنسبة للجهات التي مستها أو حتى للمتتبعين للمشهد السياسي والأمني، خاصة القرار المتمثل في إنهاء مهام المسؤول الأول على مديرية الاستعلامات والأمن، الفريق محمد مدين "توفيق"، والذي وصفه جل المراقبين في الداخل والخارج بالزلزال، وربطه البعض الأخر بالصراعات المزعومة في أعلى هرم السلطة، فيما توقع محللون على دراية بالملف أن تتسارع الأحداث مستقبلا وتصدر قرارات أهم قد تصل إلى تفكيك "الدي أر أس" وتشكيل جهاز جديد يحول محله وشملت هذه القرارات تحييد وإقالة عدد من المسؤولين والقيادات العليا في جهاز المخابرات، أبرزهم قائد وحدة مكافحة الإرهاب التابعة لجهاز المخابرات الجنرال حسان "عبد القادر آيت وعرابي" الذي أحيل على القضاء العسكري ليتابع بتهم ثقيلة متصلة ببعض الملفات أبرزها عملية احتجاز الرهائن من قبل إرهابيين بالمجمع الغازي "تيقنتورين" بإن أميناس في 16 جانفي 2013، كما تمت إقالة كل من مدير الأمن الداخلي اللواء علي بن داود وقائد الأمن الرئاسي الجنرال محمد مجدوب، وقائد الحرس الجمهوري وإقالة قائد جهاز الدرك الفريق أحمد بوسطيلة، والمعروف أن التغييرات التي مست قيادات عليا في المخابرات أو الجيش، سبقتها تغييرات في هياكل مديرية الاستعلامات والأمن التي ألحقت بعض مصالحها بقيادة الأركان وحلت أخرى على غرار مصلحة الصحافة والضبطية القضائية. ولم يخفي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نيته في إعادة هيكلة جهاز المخابرات منذ وصوله إلى سدة الحكم في أفريل من سنة 99، إلا أن الوضع العام للبلدان، خاصة من الجانب الأمني، فضلا عن أولويات أخرى سياسية واجتماعية وتنموية حالت دون تنفيذ المشروع في بداية العهدة الرئاسية الأولى، مع أن بعض المصادر تقول أن مشروع إعادة هيكلة "الدي أر أس" كان حاضرا منذ سنة 2002، وأوضحت أن المشروع "قوبل بمقاومة شديدة داخل الجهاز الأمني والقيادة العسكرية حينها، وكان ذلك سبب محاولة جناح في الجهاز الأمني وقيادة الأركان الدفع بعلي بن فليس الذي كان أقرب مقربي الرئيس بوتفليقة ورئيس حكومته إلى التمرد عليه ومنافسته بقوة في الانتخابات الرئاسية عام 2004 لكنه أخفق في ذلك". المؤكد أن جهاز المخابرات في الجزائر عرف بنفوذه الواسع، وهذه حقيقة لا ينكرها حتى مسؤولين سابقين في الجيش على غرار وزير الدفاع السابق اللواء خالد نزار، لدرجة أن البعض يصفه بأنه "دولة داخل دولة" لا يخضع لمراقبة أي جهة سواء قيادة أركان الجيش أو حتى الرئاسة ولا يتلقى الأوامر إلا من مسؤوله الأول وقيادات الأخرى الموزعة على المصالح والمديريات، حتى أن البعض اعتبر أن تدخل المخابرات في كل صغيرة على غرار التعيينات في أعلى المناصب والمسؤوليات بما في ذلك منصب رئيس الجمهورية، ساهم في تشويه صورة البلد وتقديمها للعالم على أنها دولة شمولية يحكمها العسكر وتسير دواليبها المخابرات، حتى أن تقريرا أعدته وحدة "الاستعلامات" التابعة لمجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية، صدر أول أمس الأحد زعم أن "الجزائر تنتمي إلى الأنظمة الهجينة التي تزاوج بين الديمقراطية والديكتاتورية"، ووضع هذا الوضع الجزائر، حسب التقرير، في ذيل الترتيب العالمي بالمرتبة 118 عالميا، وذلك نظرا ل»تصدر الجيش المشهد السياسي"، وفق نفس المصدر.