يثور الجدل منذ أعوام عن سرِّ انكفاءِ المثقفين في الجزائر على أنفسهم و نأيِهم عن ممارسة السياسة. وإذا كنت هنا لا أريد الدخول في متاهات تعريف المثقف، فإن المتعارف عليه أن المثقف هو الشخص الملم بقضايا أمته والواسع الاطلاع على ما يجري حوله والمُتبحِّر في كثير من المعارف والعلوم والقادر على توظيف رؤاه وأفكاره بما يقدم خدمات جليلة لأمته في شتى المجالات من خلال قدرته على إيصال أفكاره سواء إلى الطبقة الحاكمة أو إلى فئات واسعة من المجتمع لتتبنى أفكاره وتدافع عنها ولتتحول تلك الأفكار والرؤى لبرامج وواقع معاش. وعندما نستذكر قصة الروائي الفرنسي الكبير إيميل زولا emile zola وصرخته المدوية )إني أتهم( jaccuse في نهاية القرن التاسع عشر التي أطلقها لتبرئة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس Alfred dryfus المتهم بالتجسس ضد الجيش الفرنسي ومآلات تلك الصرخة التي برَّأت ذلك الضابط من تهمة خطيرة ندرك مدى الدور الذي بدأ يمارسه المثقف منذ تلك الحادثة، ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا هنا ما قام به بعض المثقفين الفرنسيين وعلى رأسهم بول سارتر وفرانسيس جونسون وموريس أودان الذي تم اختطافه ومن ثمة اختفاؤه للأبد بسبب موقفه المؤيد للثورة الجزائرية و فرانز فانون الذي التحق بصفوف الثورة وكان له شرف الجهاد في صفوف جبهة التحرير الوطني بعد أن ثار هو ورفاقه ضد التعذيب الذي كان يطال الجزائريين . لا أدعي لنفسي أنني أملك إحصائيات دقيقة أو حتى نسبية عن نقص وجود المثقفين في دواليب السلطة خصوصا و في الممارسة السياسية داخل الأحزاب ، ولكن ما ألاحظه أن هناك ابتعادا من المثقفين عن القيام بدورهم في النضال داخل معظم الأحزاب ، باعتبار أن النضال وحده هو من يُمكِّن في النهاية من تموقع المناضل كيفما كانت صفته مثقفا أو متعلما أو مناضلا نشطا لأعلى مراكز القرار، وخصوصا المسؤوليات الانتخابية وما يتبعها في دواليب الدولة ، باعتبار أن الجهاز التنفيذي الحكومي كما هو متعارف عليه في الديمقراطيات الأخرى ينبثق من الأغلبية البرلمانية. مازلتُ أذكر بمرارة نقاشا فكريا نظمته منذ أعوام إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة حول دور المثقف في العمل السياسي، كيف أن الروائي رشيد بوجدرة الذي شارك معي في ذلك النقاش إلى جانب الأستاذ عز الدين ميهوبي وأحد الأساتذة الجامعيين راح بوجدرة يردد: أنه يكره السياسة ، وأنه لهذا الغرض لا يحب ممارسة السياسة إطلاقا !! وأتذكر أنني قلت له على المباشر: إذا كنتَ أنت المثقف مع اختلاف الإيديولوجيات ووجهات النظر بيننا تَنْأى بنفسك عن ممارسة السياسة وتكره السياسة، فلمَنْ نترك السياسة إذن؟ هل نتركها للدهماءla foule لتعيث فسادا وتعبث كما تشاء، حيث سيكون البرلمان منبثقا من هذه الدهماء برداءتها و بالمال الفاسد وسوء التسيير، وحيث تكون الحكومة التي تسيِّر الشأن العام للبلد لاحقا منبثقة من هذا الصنف؟ مشكلة بعض المثقفين عندنا بما فيهم بعض الجامعيين الذين ينخرطون في النضال ببعض الأحزاب أنهم بمجرد وضع القوائم الانتخابية في التشريعيات والمحليات وخُلوِّ تلك القوائم من أسماء هؤلاء يتفرقون وينزوون ويعزفون نهائيا عن مواصلة النضال والسياسة، في حين أن أصحاب المال الفاسد والدهماء يرابضون من أجل البقاء وجلب اللوبيات والتحضير للمراحل اللاحقة بنفس الروح والعزيمة التي جاؤوا بها لأول مرة. لقد كانت الحكمة التي أطلقها الراحل محمد الشريف مساعدية من أن )النضال دوام والمسؤوليات أعوام( تَنِمُّ عن فلسفة عميقة اكتسبها الراحل من خلال الممارسة النضالية الطويلة. فالمناضل السياسي وخصوصا إذا كان مثقفا الذي يهرب في منتصف السباق بعد شعوره بالخسران مسبقا، والمناضل المثقف الذي يهرب بعد خسارته الأولى وحتى الثانية وربما الثالثة لن يكون جديرا به أن يكون مناضلا ولا مثقفا ولن يصل إلى مواقع المسؤولية السياسية إطلاقا. على المثقفين عندنا ألا يتركوا أماكنهم شاغرة للرداءة، لأن ذلك سيجعل البلد في خطر داهم مستقبلا. من ينتج الأفكار والبرامج الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ومن يضع الخطة السياسية بل ومن يشكل الملامح الرئيسية للخطاب السياسي للأحزاب غير المثقفين. إن تركتموا هذه الدهماء المتعطشة للمال والسياسة تنفرد بالنضال المغشوش و بممارسة السياسة التي ستكون مغشوشة فلا تتوقعوا مستقبلا زاهرا للبلد ، ولا تتوقعوا فكرا سياسيا جيدا ولا خطابا سياسيا جيدا ، ولا تعليما جيدا ، ولا اقتصادا متطورا ، ولا تتوقعوا ثقافة رائدة. أيها المثقفون: إن كنتم لا تغارون على بلدكم حقا لا تتركوا الرداءة تتحكم في السياسة لتتحكم في البلد.. ألم تكن وصية الشهيد ديدوش مراد واضحة عندما قال: إن استُشْهِدنا فدافعوا عن أفكارنا.. وقد كانت أفكار أولئك العظماء واضحة المعالم بلورها البيان التاريخي لثورة أول نوفمبر الذي وضعه وطنيون ومثقفون ثوريون متشبعون بأنبل القيم والمبادئ الوطنية و برؤية استشرافية بعيدة المدى لبناء الدولة الوطنية التي يساهم فيها كل أبناء الوطن وتؤطرها النخبة المثقفة المتشبعة بأنبل القيم، لا الدهماء المتعطشة للمال وإقصاء خيرة الرجال والنساء والغارقة في سوء التسيير والفساد. [email protected]