راهنت فرنسا على انتصارها في الجزائر، باستمالة أهل الجنوب وترغيبهم في فصلهم عن بقية الجزائر، أو على الأقل أثناء احتدام وطيس الثورة واشتداد حِدّة المفاوضات، إذ بعدما لاحت لها حتمية إخراجها من الجزائر، عملت على إحداث تصدّعات في جدار الشعب المقاتل، وإذا فشلت في خلق طرق أخرى- غير طريق جبهة التحرير التي كانت تقود الكفاح والمفاوضات معا- من أجل العودة منها إلى الجزائر، فإنها لم تستسلم، وبدا لها أن مشروع فصل الصحراء عن بقية الجزائر، هو المشروع القابل للنجاح حسب تخمينات خبرائها واستراتجييها العسكريين، فعزمت أمرها- قبل بدْء المفاوضات الأخيرة- على افتكاك تأشيرة من سكان ورقلة للتصديق على مشروعها الذي سيُرغِم المفاوض الجزائري العنيد على قبوله. كان السابع والعشرون فبراير من عام اثنيْن وستين وتسعمائة وألف، هو اليوم الموعود، الذي نزل فيه مبعوثها الخاص إلى السكان هنالك، وقد أكدت له التقارير الأمنية والعسكرية، نجاح مهمته قبل أن ينطلق، بحيث سيجد شعبًا يهتف بحياة فرنسا، ولا يرضى عنها بديلا، وسيصفع بما يلقاه مفاوضي جبهة التحرير، ويقلب عليهم الطاولة، ولكنه ما كاد يتّخِذ له مكانا وسط حشود المدينة، حتى ارتفعت من حوله الرايات الوطنية، وتعالت أصوات المنادين باسم جبهة وجيش التحرير، وكادت تصعقه لافتات يطالب حاملوها باستقلال الجزائر الواحدة الموحَّدة، فما كان منه إلا أن قام غاضبا وهو محسور، واتجه مباشرة إلى المطار عائدا على نفس الطائرة التي جاب بها قبل دقائق، فقد تلقّى ردّ الورقليين الواضح والحاسم والصريح، من مسألة استرجاع الجزائر لاستقلالها كاملا غير منقوص أو مبتور أو مُشوَّه . لم تكن انتفاضة ورقلة، في وجه الطوق العسكري والنفسي المُحكَم، إلا فصلا من صراع الجزائريين الطويل من أجل الحرية، وبنْدًا من وثيقة عهدٍ أخذوه على أنفسهم، وحرصوا فيه- أينما كانوا- على وحدتهم الترابية والحضارية، وهي بقدر ما كانت وفاءً لدماء ملايين الشهداء، الذين سقطوا من أجل الجزائر الواحدة، بقدر ما كانت لحظة مفصلية، في تصحيح مسار التاريخ، وكان حريًّا بالجزائر الرسمية، أن تحتفل بهذه الذكرى، مثلما تحتفل بذكرى عيد النصر، لأن تلك الانتفاضة، كانت أحد الأسباب الرئيسية في توقيف القتال، ولكنها لم تفعل خاصة هذه السنة، التي يشهد فيها المجتمع الجزائري، تقهقرًا على جميع المستويات، ولولا "بقايا" مجاهدين ممّن لم يُبدِّلوا، وقفوا في المكان الذي وقف فيه أسلافهم قبل أربعة وخمسين عامًا، يستعيدون مجد الآباء والمناضلين والمكافحين، لمرت الذكرى كأن لم تكن . يتبادر اليوم إلى ذهن الشباب الذي لم يستوعب بعد ما كان يُفكِّر فيه أسلافهم، من أجل جزائر حرة واحدة، سؤال مفاده: هل كان لأهلنا الذين خرجوا عن بكرة أبيهم، ذات صباح من ذلك العام، أن يفعلوا ما فعلوه لو علموا أنه سيأتي على مدينتهم حين من الدهر، لا يروْن فيها التنمية إلا وهي تمر بعيدا عن ديارهم، لِتُفرَغ الحرية من محتواها الإنساني والوطني ؟ أو ربما سيصيغون السؤال بطريقة أخرى: هل نجح الذين اندسُّوا بين صفوف الغاضبين على الاحتلال، ولم يستطيعوا أن يجهروا يومئذ بحبهم لفرنسا، في تعطيل الجموع الغفيرة، فأفشلوا كل المشاريع والأحلام التي بشّر بها الشهداء والمجاهدون ؟ قد يكون التقليل من أهمية الاحتفال الرسمي الذي يليق بالذكرى، مؤشِّرًا على نجاح هؤلاء، وفشَلِ الشعب في الحفاظ على ما حققه بثورته، إذ لا يمكن لأمة تُهمِل تاريخها، أن تصل إلى مستقبلها، فإذا ما تركت عُداةَ تاريخها ينتصرون على دُعاته، انهزمت وانشطرت، وأصبحت أثرًا بعد عيْن... [email protected]