لفت انتباهي هذا الغياب المعيب لأهل الثقافة والأدب عن واجب التهنئة والتحية للروائي الطاهر وطار، ولا أحد يمكن أن يتعلل بعدم العلم الذي هو أقبح من ذنب عدم رد التحية، فالطاهر وطار قد حيا مثقفي الجزائر بظفره بجائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس، وقد نشرت جلُّ الصحف الخبر، وتحدثت به قنوات الإذاعة والتلفزيون، وبقي احتمال واحد، هو أن يكون المنتسبين للثقافة عندنا في عطلة خارج كوكب الأرض.. إن جائزة مؤسسة العويس جائزة كبيرة ومحترمة، وتخضع لتحكيم منضبط وفق مقاييس دولية، والقيمة المادية التي رصدت لها معتبرة، وكونها تحط هذه المرة بالجزائر، فلذلك دلالة لتكريم شخص الطاهر وطار أولا، ومن ورائه تكريم لمثقفي هذا بلده قاطبة، واحتجاب هؤلاء المثقفين عن رد التحية بمثلها أو بأحسن منها، سواء للمؤسسة التي كرَّمت أو للمبدع المُكرم، سيظل سؤالا حائرا سره مدفون قي جوف أصحابه.. وقد استثني من أولئك، الروائي واسيني الأعرج، فقد كتب في يومية (الخبر)، أنه قطع "الممرات الضيقة، في البرد والمطر وبقايا الثلج، باتجاه إقامة الكاتب الطاهر وطار، في باريس، لأبارك له فوزه الكبير، الذي شرّف بلدا لا يعرف أن الثقافة مثل الرياضة تماما.."، وإن كنت لم أفهم العنوان الذي كتب واسيني تحته هذه الكلمات، فقد اختار عنوانا غريبا: (ماذا بقي من رماد السنة الماضية؟)، وواسيني يعرف من السيمائية، أن اللون الرمادي مضطرب وقلق ومنافق، وأن الرماد خفيف تذروه الرياح، وأنه يمثل ما يعقب التوهج والنور، فهل مقام التكريم يحمل هذه الدلالات؟ وليسمح لي الروائي واسيني الأعرج، أن لا أقف إلا عند هذا المقطع من كلامه، إذ أن ما جاء بعده لا يحتمل البناء عليه كما لا يحتمل النقض، لأنه في الأغلب واه البنيان، والمعول لا ينقض إلا على البناء المتين، كيف وقد بدأ كلامه بأن (السماء عادلة أحيانا)، ولست أدري عن أي سماء يتحدث واسيني، هل السماء التي نرفع إليها أكف الضراعة خوفا وطمعا، ونحن موقنون بقدرة الصمد، أن يقضي حوائجنا ويفك كربنا، وهو عادل دائما، لطيف بعباده لأنه قاهر فوقهم، أم هي سماء أخرى لا نعرفها؟ فالسماء التي تطارد البشر، وتحيف عليهم وتتصارع معهم، هي سماء مستوحاة من خارج ساحتنا الثقافية، هي سماء تجدها في كتابات الغربيين الذين أشربوا أثر عقيدة الفكر اليهودي، فالتوراة حكت عن مطاردة الرب لآدم في الجنة وهو يختبئ خلف أشجارها، وتطورت إلى فكرة أن العقيدة الدينية هي نتاج الفكر الطوبائي، كما أثبتها جوليان هكسلي، وأن الإنسان المعاصر قد استغنى عنها أو أن الإنسان المعاصر يقوم وحده.. اعتذر منكم عن هذا الاستطراد، واعتذر من عمي الطاهر، وإن كنت أعلم أنه لا يزعجه أن أتمدد في شعاب الفكر، وكل الذي يجمع المبتلين بالكتابة سماط واحد، هو نظم هذه الحروف المعجزة، لتحقيق الانتفاع أو الإمتاع، ولا قيمة لنظم حروف لا يحمل صاحبها لقارئه إحدى الفائدتين إن قصر على التحقق بكليهما، فهو طريق واحد لاحب، لا عوج فيه وأمتا، يحقق لصحابه ذكرا بعد انقضاء عمره المحدود، ينفع السائرين عليه، أما زبد القول فيذهب جفاء، ولله درُّ عباس العقاد الذي لم يرج من كتبه إلا هذا المقصد، حيث قال يخاطبها: ويحك إنا نحنُ من مَعشرٍ يَسبِق فينا الدور أو يعقبُ إذا سنُمسِي كلنا ما لنا في العيش إلا ذمك المتربُ فليت لي إذ أنا تحت الثرى جُمجمة ثرثارة تخطبُ رهطا من القراء يرضونني رِضَاي عن بَلوَاك إذ أغضبُ وأعترف أن قراءة كتب العقاد، وأنا بَعدُ حَدث ٌ صغير قد جنت عَليَّ، فقد حرمني رأيه في أدب الرواية والقصة من الاحتفاء بهما، فلقد كان يرى أن بيت شعر جيّد، يفوق في قيمته الرواية ذات الصفحات العديدة، وهو رأي متطرف، نقضه العقاد بنفسه يوم احتاج أن يفضي بما يختلج بين ضلوعه من تجربته في الحب، فلم يجد إلا فن القصص سبيلا، فكتب روايته الوحيدة (ساره).. لقد صدني رأيُ العقاد ذاك عن الاحتفال بالقصص والراية سنين عددا، ولم أدرك ما أنا فيه من قصور إلا في زمن متأخر، فوقفت على ما تيسر لي منها، وما أتيح لي من الوقت لقراءتها، وأدركت أن فن القصص إضافة لما يحققه من النفع والإمتاع، ظلَّ مطية يركبها دعاة الغزو الثقافي، لعموم انتشارها وسهولة الإفادة منها في أعمال السينما والتلفزيون، وهو ما لا يتحقق للأصناف الأدبية الأخرى، ومن أجل ذلك ترصد لها الجوائز، وتوجه بعض المؤسسات الروائيين لخدمة مخططاتها، وتتكفل بإغداق المال عليهم، وتضمن انتشارهم شرط لأن يلتزموا بدفتر شروطها المعلوم.. وإنها لفتنة أي فتنة، ونهر آسن شرب منه كثير منهم، ومن لم يشربه طرد من جنة الدجال، جنة تضمن النشر المريح والجوائز المغدقة، إذ أن المال العربي لم يرابط على هذا الثغر الخطير، إذا استثنينا بعض المؤسسات الخليجية، ومنها جائزة الملك فيصل، وجائزة مؤسسة العويس، وأخيرا جائزة عبد العزيز بن سعود البابطين، وهي مؤسسات التفت للثقافة العربية، والإبداع داخل فضائنا الحضاري، دون أن تمتنع في قبول التنوع في الرأي أو الأقطار.. ونحسب أن الطاهر وطار من أولئك المتعففين، الذين لم يشربوا من نهر الفتنة، ولم يسمع إلا لصوت المبدع فيه، يرضيه ويحاول أن يرضي قراءه بما يعتقد أنه صواب، وله بذلك أجر المجتهد فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ أجر واحد، وهو يجاهر بما يعتقد من رأيي وإن سخط الساخطون، ويعتقد ما يجاهر به وإن تنكر كثير من الناس للعقائد، وهو ما جعله نسيج وحده إذ تعددت صور الآخرين، وأزعم أن المحكمين في جائزة مؤسسة العويس قد أدركوا هذه الحقيقية في أعمال وطار، فكانت قيمة مضافة تدعم مسطرة تقويم أعماله..