د/ محمد العربي الزبيري إن الشعوب، كل الشعوب، طيبة في أساسها، قادرة على صنع المعجزات عندما تجد القدوة الحسنة، لكنها تغرق في البؤس والشقاء حينما تبلى بقياديين لا تتوفر فيهم شروط المسؤولية التي تشكل الكفاءة والأهلية محوريها الرئيسيين. وبالمقابل فإن القادة كلهم لا تتوفر فيهم شروط الحاكم الصالح ومن ثمة فإن مصائر الشعوب تكون دائما مرهونة بمدى قدرة الحاكم على التفاعل مع رغبات الجماهير الشعبية وطموحاتها ذلك، أن تلك القدرة هي التي تجعل المواطن يقدم، طواعية، على تأدية رسالته المتعلقة بالحفاظ على التوازن في العلاقة بين الأفراد والمجتمع من جهة وفي العلاقة بين سائر شرائح المجتمع والمؤسسات التي يشتمل عليها نظام الحكم من جهة ثانية. من هذا المنطلق، وعندما يرجع المرء إلى وضعنا في الجزائر، ومن دون أن يسمح لنفسه بإصدار الأحكام النهائية، فإنه يتوقف عند مجموعة من المحاور الأساسية التي يفترض أنها تشكل مرتكزات الالتزام بين نظام الحكم وجماهير الشعب. ومن خلال نظرته الفاحصة إليها، يصل بالتدريج إلى تشخيص الداء ووصف الأدوية اللازمة لإعادة القطار إلى سكته الطبيعية، أي إلى توفير الشروط التي لابد منها لفتح القنوات بين الحاكم والمحكوم وإعادة علاقات الثقة المتبادلة بينهما، ورسم الخطوط الحمراء التي لا يجوز لأي منهما أن يتجاوزها. وفي نظرنا فإن أول تلك المحاور يتمثل في مشروع المجتمع الذي بشرت به جبهة التحرير الوطني، ووعدت بتجسيده على أرض الواقع في الجزائر، والذي كان واضحا وضوح النهار وكانت صياغته بينة ومفهومة. إن جبهة التحرير الوطني عندما وضعت الخطوط العريضة ورسمت المحاور الأساسية للمجتمع الجزائري بعد استرجاع الاستقلال الوطني، لم تنطلق من مرجعية فكرية واحدة، بل إنها لخصت منظومة الأفكار التي كانت تنطلق منها جميع أطراف الحركة الوطنية الجزائرية وهو الأمر الذي جعل، يومها، الحزب الشيوعي ومن كان يدور في فلكه من التغريبيين واللائكيين، يرفضون الانضمام إلى الثورة، ويتولون توظيف كل ما لديهم من إمكانات لإجهاضها حتى يتسنى لهم، بالتعاون مع فرنسا وغيرها من الدول الأجنبية، إقامة المجتمع البديل الذي هو صورة طبق الأصل عن المجتمع المفروض علينا اليوم. وقبل اليوم، وخاصة في الفترة ما بين 1954و1962، فإن جبهة التحرير الوطني قد تمكنت من تغيير ذهنية المواطن الجزائري فأيقن أن الجزائر ليست فرنسا، وراح يعمل، واعيا، بجميع الوسائل من أجل استرجاع السيادة الوطنية المغتصبة وفي سبيل إعادة الربط مع الدولة الجزائرية المغيبة والتي كان قوامها العروبة والإسلام، وعبر عنها بيان أول نوفمبر 1954 من خلال الهدفين الأساسين اللذين جاء فيهما: إن الجمهورية الجزائرية بعد استعادة الاستقلال الوطني تكون ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية، وأن شمال إفريقيا يجب أن يسترجع وحدته في إطاره الطبيعي العربي الإسلامي. وعندما كان مشروع المجتمع واضحا والقيادة واعية ومتشبعة بمنظومة الأفكار الواردة في أدبيات الثورة، فإن الشرائح الاجتماعية، في معظمها، قد تفاعلت مع النداء وتجندت، صادقة، لتقويض أركان الاحتلال. لكن هذا الأخير لم يكن هو ذلك التلميذ الغبي الذي تحدث عنه الجنرال جياب، بل أثبت كفاءته العالية على التكيف مع الأحداث وقدرته الفائقة على مواجهة التحديات. وحيث أن جبهة التحرير الوطني سدت في وجهه المنافذ داخل التراب الوطني، فإنه لجأ إلى الخارج، مستعملا كل الوسائل، لخرق صفوفها ليس من أجل التصدي لتحرير البلاد الذي بات أمرا مفروغا منه، ولكن لنشر وباء الانحراف بكل معانيه. هناك من يزعم أن انحراف ثورة نوفمبر 1954 بدأ مع مؤتمر وادي الصومام الذي يقال إنه أضفى على جبهة التحرير الوطني طابع اللائكية، وحوّلها من حركة جهادية إلى مجرد حرب تحرير وطني. فهذا ادعاء باطل لأن وثيقة وادي الصومام لم تتنكر لبيان أول نوفمبر، بل تبنته كاملا، وجددت التأكيد على خطوطه العريضة خاصة فيما يتعلق بوحدة التراب الوطني ووحدة الكفاح ووحدة التمثيل. فالذين يتسترون، اليوم، وراء مؤتمر وادي الصومام، هم في الواقع بقايا أولئك الذين تمكنوا من اقتحام المنافذ التي أوجدها الاستعمار خارج حدود الوطن فزرعوا بذور الانحراف في أدبيات الثورة وفي سلوك معظم القادة الفاعلين الذين صاروا يقضون جل أوقاتهم في الملاهي والخمارات بعيدين عن ميادين المعركة وغير آبهين بما يجري داخل الوطن. إن الانحراف، في الحقيقة، قد ظهر في مؤتمر طرابلس الأول عندما تسربت أقلام اللائكيين والشيوعيين إلى أدبيات جبهة التحرير الوطني، واستطاعت أن تحذف منها مقومات العروبة والإسلام. لقد كانت القيادة، في ذلك الوقت قد تخلت عن يقظتها الثورية وتركت جانب الصياغة كله للأقلام الجديدة التي انضمت إلى جبهة التحرير الوطني في الخارج من دون أن تتخلى عن مرجعياتها الإيديولوجية. إن تلك الأقلام هي التي ظلت تتفنّن في إفراغ أدبيات الثورة من محتواها الحقيقي واستبداله، تدريجيا بجوهر ما كان يدعو إليه الشيوعيون واللائكيون قبل اندلاع الثورة أي: جزائر مستقلة لكن مجردة من مقوماتها الأساسية. ويمكن القول إنها انتصرت نتيجة وهن أطراف الحركة الوطنية الجزائرية وتصديقها بإخلاص الشيوعيين واللائكيين ومزدوجي الجنسية. وكان من المفروض أن يتفطن قادة جبهة التحرير الوطني لمناورات تلك العناصر التي حذر من خطورتها مؤتمر وادي الصومام والتي لم تكن سوى عيون للحزب الشيوعي الجزائري الذي رفض الانضمام إلى صفوف الحركة الجهادية، وظل يعارضها ويعمل على إجهاض المشروع الذي بشرت به حتى بعد وقف إطلاق النار. وإذا كان قادة الثورة الحقيقيون قد تمكنوا من أن يكونوا خير خلف لخير سلف ولم تنطل عليهم حيل الشيوعيين والتغريبيين، فإن خلفهم لم يعرفوا كيف يذودون عن الحياض وتركوا المنافذ مفتوحة فاستغل ذلك أعداء العروبة والإسلام وراحوا ينشرون وباء الانحراف الذي قادنا إلى ما نحن عليه اليوم.