يعتقد الدكتور ناصر جابي المختصّ في علم الاجتماع، أن الحكومة لم تحسن التعامل مع انشغالات ومطالب النقابات المستقلة، ورأى أنه كان من الأجدر بها مثلا تحديد جدول زمني لتطبيق التزاماتها، وزيادة على تأكيده ل »صوت الأحرار« بأن الحراك الحاصل في الجبهة الاجتماعية كان متوقعا فإنه أوضح أن دور هذه النقابات أصبح مؤثرا جدّا أمام انحسار دور الاتحاد العام للعمال الجزائريين في السنوات الأخيرة. س: دكتور ناصر جابي، هناك حراك اجتماعي غير طبيعي في الأسابيع الأخيرة يتصدره عودة النقابات المستقلة إلى الواجهة بعد إعلان الدخول في سلسلة من الإضرابات، يأتي ذلك رغم الالتزامات التي قدمتها السلطات العمومية بالتكفل بكل الانشغالات المطروحة، من موقعكم مختصّا ومتابعا للوضع عن قرب ما هي القراءة التي تقدمونها بخصوص ما يجري في الجبهة الاجتماعية؟ ج: هذا الحراك كان متوقعا بعد التخلص من ضغط المسألة الأمنية، والواقع أن الوضع الأمني تحسّن وهذا وحده كان كفيلا بأن تطفو كل المشاكل الاجتماعية التي كانت في السابق على السطح، خصوصا ويتزامن ذلك مع الوضعية المالية للبلاد التي تؤكده بعض المؤشرات وخاصة الخطاب الرسمي، وهناك نقطة أخرى ساهمت بدورها في بروز هذا الحراك والغليان ويتعلق الأمر بالمشاكل الاجتماعية التي تفاقمت خاصة مع التهاب الأسعار والغلاء غير المتحكم فيه وكذا التضخم غير المتحكم فيه أيضا، وأخيرا هناك نقطة أخرى ساهمت في الوضع وهي تتعلق بنوعية الحضور الذي أصبحت تشكله النقابات المستقلة مقارنة من ما كانت عليه. س: نفهم من كلامكم أن السلطات العمومية فشلت في معالجة الوضع، ولم تحسن التفاوض مع هذه النقابات للوصول إلى أرضية تفاهم حول المسائل العالقة؟ ج: لا أقول هنا إن الحكومة فشلت في التحكم في الوضع، ولكن ما أردت تأكيده أن هناك وضعا وشروطا موضوعية دفعت كلها بهذه النقابات المستقلة إلى المطالبة خاصة تلك التي تدافع عن الفئات الأجيرة المتوسطة من الموظفين الذين يعتقدون بأن الواقع المعيش يسمح لهم بالإضراب خاصة وأنهم يشعرون بتدهور مستمر لقدرتهم الشرائية، والنقابات المستقلة منذ نشأتها في بداية التسعينيات من القرن الماضي كانت في حالة سبات، وبالتالي فإنه منطقي جدّا في ظل الفراغ النقابي الموجود الذي لم يقدر الاتحاد العام للعمال الجزائريين على تبنيه أن تظهر بقوة. س: على ذكر اتحاد العمال الجزائريين، الملاحظ أنّه غالبا ما يعطي الانطباع بأنه هو صاحب من حقّق المكاسب وحتى الحكومة تحرص على إعطاء هذا الانطباع كذلك رغم أن النقابات المستقلة كانت دائما هي التي تضغط مثلما يجري حاليا بشأن القوانين الأساسية والأنظمة التعويضية لمختلف القطاعات، لماذا هذه السياسة..؟ ج: الاتحاد العام للعمال الجزائريين فقد مواقعه على مستوى الفئات الأجيرة الوسطى، والدليل على ذلك أن النقابات المستقلة تمكنت من كسب تأييد الكثير من الفئات داخل المجتمع مثل الأساتذة والأطباء والموظفين، وهذه حرب مواقع نقابية، والمركزية النقابية تحاول الآن أن ترجع إلى الواجهة والدليل على ذلك أنها أسّست فدرالية وطنية للصحفيين وهذه سياسة معقولة، كما نلاحظ أن الاتحاد العام للعمال الجزائريين يحاول الرجوع من بوابة التعليم العالي بالإضافة إلى سعيه المتواصل للانفتاح على الوظيف العمومي، وعليه فإن حسم حرب المواقع سيعود إلى الجهة التي تحسن التحرّك. أما بخصوص الإضراب فإنه، كما هو معروف، حق دستوري وقانوني واللجوء إليه يكون وفق شروط وحسابات يقوم عليها النقابيون، وهو الأمر الحاصل في الفترة الحالية لأن النقابات ترى في خيار اللجوء إلى الإضراب الأخير لم يحقّق المطالب التي كانت تدافع عنها وبالتالي قررت العودة مجددا إلى الواجهة من خلال التهديد بالإضراب على أمل أن يعطي نتائجه، وأرى في ما يجري الآن توجّها نحو دفع الإدارة من أجل تحديد موعد وجدول زمني لتطبيق ما تمّ الاتفاق عليه في وقت سابق. س: على هذا المستوى، هناك تخوّف من أن يؤثّر موقف الحكومة السلبي على مصير ملايين التلاميذ الذي باتوا مهدّدين، أكثر من أيّ وقت مضى، بشبح السنة البيضاء، كيف ترون حاليا تعامل السلطات العمومية مع تهديد النقابات المستقلة بالإضراب؟ ج: في اعتقادي هناك مشكل لدى الحكومة التي لا تحسن التعامل مع النقابات والرأي العام، وما أقصده هنا هو وجود مشكلة اتصال حقيقي، والمشكل الموجود لدى النقابات أنها لم تعد تؤمن بالتسويف وفي المقابل فإن الحكومة كانت قادرة على استغلال الوضع وتقديم تاريخ معيّن للإعلان عن تطبيق القوانين الأساسية ولتكن مثلا الفاتح من شهر ماي المتزامن مع عيد العمال، ولكن ذلك لم يحصل. إذن أرى بأن إقدام الحكومة على تحديد سقف زمني لتلبية مطالب النقابات كان سيضعها في موقف أحسن من الذي هي عليه الآن. والواقع أنه إذا عجزت وزارة معينة وأصبحت غير قادرة على التحكم في ملفاتها فإن هذا يجرّ مباشرة نحو الإضراب الذي نتوقع أن تكون نتائجه وخيمة بشكل أكبر في قطاع التربية لأن الأمر يتعلق بالجانب البيداغوجي الذي لا يمكن استدراكه مثلما هو الحال في القطاعات الاقتصادية، والدليل أن تلاميذ مختلف الأطوار يعانون الآن من ضغط البرامج بسبب إضراب الثلاثة أسابيع خلال شهر نوفمبر الماضي، وبالتالي فإن هذا الوضع أحسنت النقابات استغلاله للتصعيد من حدة التهديد. س: الوضع إذن لا يبعث على الارتياح حسب شرحكم، وبناء على ذلك إلى أي اتجاه تسير الأمور وفق المعطيات المتوفرة حاليا في الجبهة الاجتماعية وبالأخصّ إضراب قطاع التربية؟ ج: أتمنى أن تسير الأمور عكس ما يجري حاليا، وأتمنى أيضا أن يبقى التهديد بالإضراب مجرّد تهديد فقط لأن إضرابا جديدا في قطاع التربية بمختلف أطواره قد يجر إلى إضرابات أخرى لا يحمد عقباها، ولكن على الحكومة أن تحسن التعامل مع الوضع لتفادي نتائج غير محسوبة في المستقبل.