قبل أسبوع التقيت الروائي مرزاق بقطاش عند مدخل مبنى الاذاعة، ونزلنا طابقين معا وتوقفت وهمَّ هو بالنزول طابقا آخر، والتفت إليَّ يسألني ألا تنزل؟ فأجبته أنني بلغت مقصدي، وأردفت قائلا: ما أجمل اللغة العربية، فهناك فارق يخفى على كثير من الناس في استعمال أفعال نزل، وهبط، وحط، فيقولون هبطت الطائرة، والهبوط حركة عشوائية، وقد استعملها القرآن في وصف الحجارة التي تهبط من خشية الله، على خلاف النزول الذي هو حركة واعية متأنية، وهو لا يفيد دائمة الحركة من الأعلى إلى الأسفل، وهو في ذلك على خلاف فعل حط.. وهنا برقت في ذهني فكرة، وقلت للأستاذ مرزاق لقد مشينا بعض الطريق سويا، وها نحن نفترق على المودة، تواصل طريقك وانصرف أنا لشأني عند هذا الحد من الطريق، أريت لو أننا عملنا بهذا المسلك في حياتنا كلها، أن نصحب بعض الناس في بعض الطريق، ونمضي معهم ويمضون معنا، فإذا انصرف أحدنا لسبب ودعناه بحب ومودة، ما أحوجنا أن ندرك هذا الأمر في عالم الأفكار والآراء، وأن نسير معا فيما أتفقنا فيه، وتتسع صدورنا للإختلاف الذي طالما نردد أنه »لا يفسد للود قضية«، لكن الظلم والجهل في طبائع البشر، يأبى إلا صهر جميع الناس في قالب فولاذي، ومن ليس معي فهو ضدي.. وتزامنا مع حلول اليوم العالمي للغة العربية، وهو يوم رأت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم »أليسكو«، أن يحتفى به غرة شهر مارس من كل سنة، دعا المجلس الأعلى للغة العربية جمع من المثقفين إلى ملتقى تليت فيه قصائد شعرية، ومحاضرة أظهرت دور تلعيم التقانة باللغة العربية، جاء فيها المحاضر بحجج تثبتها الأرقام والبراهين، تظهر لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، نجاعة التعليم باللغة العربية، مبرزا تجارب عملية في ذلك.. وتستند المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في مبادرتها، بترسيم هذا اليوم إلى »الواقع الذي تعيشه اللغة العربية، سواء في مجال الإعلام والاتصال أو على مستوي التعريب أو في نطاق النظم التربوية« والذي »يقتضي بدون شك مضاعفة الجهد من أجل تنمية اللغة الأم واعتبارها بصورة عملية أحد ضمانات للأمن الثقافي العربي، وهذا الجهد يحتاج، فضلا عن الجهود المبذولة في كل قطر عربي، عملا جماعيا على الصعيد العربي«، بحسب ما جاء في بيان المنظمة، الأمر الذي شدد عليه الدكتور محمد العربي ولد خليفة رئيس المجلس في كلمته.. والشاهد عندنا في موضوعنا، أن المجلس ختم هذا اللقاء بتكريم الدكتور عثمان سعدي، والذي قال عنه رئيس المجلس أن نتفق مع الدكتور سعدي أو نختلف معه في الوسائل، فهو مناضل فذ ومنافح عن اللغة العربية طيلة نصف قرن من الزمن، وهي كلمات لا لبس فيها في التأكيد على الاقرار بجهود كل من يسعى لغرس بذرة في بناء الوطن، مادام المشتل واحد وإن تنوع أو اختلفت طرائق وضع البذور.. وهنا يغدو الاختلاف ثراء، والتنوع تراكما، وفن له أصحابه ومهاراته، يحرر المبادرات الفردية والجماعية من النمطية القاتلة، فالبشر الذين خلقهم الله متميزين ببصمات أيديهم وأعينهم، لم يطلب منهم أن يسيروا ببصائرهم عميا، لا يرون إلا لونين أبيض ناصع أو من هو معي، وأسود مدلهم فهو ضدي.. تلك أجواء خانقة، تعوق النمو الطبيعي للمجتمع، وتعشش في أرجائه الأعشاب الضارة التي تزحم النبات الطيب، وهي أجواء يطغى فيها صوت »بوليس الضمائر«، حيث يحاكم الناس على نياتهم لا على أفعالهم، ويتصدر فيه الغوغاء لأن مستقبلهم مرهون بكبت أصحاب الكفاءة والتضييق عليهم، والأعور ملك في بلد العميان كما يقول المثل.. إن الاختلاف يغدو بهذه الصورة، ضرورة ومطلب حياة، لأنه ينشط دورة التفاعل الحي بين البشر، ويربطهم بأسباب التقدم المبدع الخلاق، حيث أجواء التنافس الصحي بين القرائح والعقول، ويحدث الحراك اللازم لتجدد المياه التي تحمل سفن المجتمع، فالركود صنو للعفونة والموت بالتسمم..