شهدت السنوات الأخيرة من الثمانينيات أحداثا كان من أهمها نتائجها انهيار الكتلة الاشتراكية، فقد انتزع السلطة في بولندا جناح حركة التضامن، التي تأكد فيما بعد أن رائدها النقابي ليش فاليزا كان على علاقة بالمخابرات الأمريكية. وحلّ الشعب الشيوعي المجري نفسه وتقدم للناخبين تحت اسم جديد، واستقال زعيم ألمانياالشرقية الأسطوري إيريك هونيكر، واختفى كل أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، وفرّ تيودور جيفكوف من القصر الرئاسي في صوفيا، وانتهى الأمر بنيكولا تشاوشيسكو إلى رصاصات استقرت في صدره هو وزوجه إثر محاكمة هزلية جاءت بعد أحداث مشبوهة انطلقت من تيميشوارا في 16 ديسمبر 1989. ويُحطّم جدار برلين بكل ما يرمز له في عملية تيليفيزيونية كبرى، ويتردد فيما بعد أن غورباتشيف تلقى 30 مليار دولار لتسهيل سقوط الجدار، وهو ما أكده هيكل في تدخل متلفز منذ عدة سنوات. وأفرز كل هذا وضعية جديدة على الساحة العالمية، فقد كانت واشنطون قد بنت كل مخططاتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية على محاربة الشيوعية الدولية، وإلى درجة استثمارها في تصفية خصوم السلطة السياسية والمالية والعسكرية كما حدث مع ملاحقات السيناتور ماكارثي. وأصبحت القوة العسكرية الأمريكية الآن في وضع صعب، فالعدوّ الذي أعدت نفسها لمواجهته اختفى كتمثال جليدي تحت شمس حارقة، وتحدثت لجانٌ في الكونغرس عن تخفيضات كبيرة في ميزانية الدفاع، وهو ما أقلق قيادة الجيش وكل مؤسسات صناعة الأسلحة والخدمات العسكرية. ولأن دولة في حجم الولاياتالمتحدة في حاجة دائمة لعدوّ تستقطب حوله الدعم للسلطة القائمة، فقد راح الرئيس بوش يبحث عن عدوّ جديد يمكنه من استقطاب الرأي العام حوله، وكان اختياره الأول هو الحرب ضد المخدرات، ثم جاءت فكرة محاربة الإرهاب الدولي بعد حادثة لوكيربي، ولأن كل ذلك لم يكن قادرا على تبرير الإنفاق العسكري، فضلا عن زيادته، ظل هدف القوة العسكرية البحث عن عدوّ يمكن أن يبرر ميزانيتها الضخمة. ويجب أن نتذكر أنه في تلك المرحلة على وجه التحديد كانت أوربا الموحدة تتحول شيئا فشيئا إلى عملاق اقتصادي، وقوتها ستكون مرشحة للتنامي إذا ارتبطت بها مجموعة دول أوربا الغربية التي تكون رابطة التجارة الحرة (الافتا) في انتظار أن تلحق بها دول أخرى من دول أوربا الشرقية مثل المجر ورومانيا وبولندا، ليتوج كل ذلك بوحدة ألمانيا للمرة الأولى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وفي مقابل ذلك كان الوطن العربي يعيش وضعية فوضى سياسية كان اختفاء موسكو من معادلة توازن القوة العالمية واحدا من أهم أسبابها، وكان غياب مصر عن القيام بالدور الذي تعوّد عليه العرب زيادة في حجم الفراغ الذي بدأ العراق يفكر في ملئه، أو القيام على الأقل بدور إقليمي يتخلص به من آثار وضعية تشبه وضعية البطالة التي عرفتها القوات الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وكانت أهم مشاغل العراق المشكلة الاقتصادية، فالحرب كلفته كثيرا، وكدّست عليه ديونا عربية وغير عربية، وكان انخفاض سعر النفط ينزل بدخله إلى حدود غير محتملة، وكان السبب في رأيه، ورأي آخرين من بينهم السعودية، أن انخفاض الأسعار يعود إلى أن سوق البترول متخمة بالفائض، وكان ذلك الفائض نتيجة لزيادة إنتاج كل من الإمارات والكويت (هيكل ص 255) ولم تكن الكويت تخفي ما تقوم به، بل إن وزيرها للبترول الشيخ علي خليفة الصباح قال في حديث لصحيفة وول ستريت جورنال (Wall Streat Journal) في 12 يونيو 1989 بأن الكويت لا تنوي الالتزام بحصتها المقررة ضمن إطار الأوبيك، وهي نحو مليون برميل يوميا (1.037.000) وأنها تصرّ على حصة تقترب من المليون ونصف (1.350.000) وتعلق الصحيفة بأن الكويت تنتج حاليا 1.700.000 برميل يوميا، ويضيف الشيخ قائلا بأن الكويت والسعودية على طريق تصادم محقق بسبب الحصص، ثم يقول طبقا لما يورده هيكل بأن : السعودية مثل شركة كبيرة منهارة تجري في كل اتجاه محاولة الإفلات من قوانين الإفلاس، ثم يُعلق هيكل قائلا (ص 256) بأن الكلام عن السعودية ربما كان مقصودا منه أن يسمعه غيرها !!. وتزامن ذلك كله مع الأزمات التي عاشتها الجزائر بعد أحداث أكتوبر 1988، والتي أجهضت مشروعا كان الحديث عنه بدأ يتزايد وهو الوحدة بين ليبيا والجزائر، وغرقت البلاد في المشاكل التي تولدت عن تلك الأحداث، وكان الرئيس الشاذلي يُحس بجرح كبير نتيجة للدماء البريئة التي سالت، لكنني ما زلت أعتقد أن أكبر خطأ ارتكبه آنذاك هو في تقدمه لعهدة رئاسية جديدة، كان من شجعوه عليها يريدون كسب بعض الوقت لترتيب أوراقهم على ضوء القانون الانتخابي الجديد المعتمد على نظام الأغلبية، والذي كان هو السبب الرئيسي في الكارثة التي انزلقنا إليها، بمزيج من الحماقة والسذاجة وسوء التخطيط والنوايا المبيتة. وانحصر النشاط السياسي في افتعال الهياكل السياسية الكارتونية وممارسة الألاعيب الانتخابية والبهلوانيات الإعلامية، والسعي الحثيث نحو الولاء لمراكز قوى معينة، كانت تقوم بصياغة المستقبل الجزائري طبقا لما تحدده مصالحها الآنية، وما تتطلبه من علاقات وتحالفات وارتباطات داخلية وخارجية. ويشهد نفس العام حدثان لكل منهما أهميته البالغة، وكان الأول هو لقاء زيرالدا الذي عقد على هامش القمة العربية في الجزائر في يونيو 1988، وضم قادة المغرب العربي الخمسة، معمر القذافي والحسن الثاني ومعاوية ولد سيدي أحمد الطايع وزين العابدين بن علي إلى جانب الرئيس الشاذلي بن جديد بطبيعة الحال. وعُقد المؤتمر في استراحة الرئيس بزيرالدا، والتي كانت في عهد الرئيس بو مدين مجموعة مبان صغيرة تسمى جناح الصيد (Pavillon de chasse) وتم تطويرها في الثمانينيات لتكون مقرا ثانويا للرئيس فأصبحت إقامة فاخرة. وأظن، وبعض الظن هو الإثم، بأن اللقاء تم بضغوط من المملكة العربية السعودية، التي جرى إقناعها من قبل أشقاء بأن تفعيل دور المغرب العربي يفرض حل قضية الصحراء الغربية، وهو أمر حقيقي، غير أن الأمر قدم للرياض على أنه قضية مغربية جزائرية، وبالتالي يجب إيجاد إطار مغاربي يمكن أن يضع الجزائر حيث يمكن أن تتفاهم مع المغرب حول الحل النهائي، وكان هذا المنطلق في حد ذاته هو سبب فشل اتحاد المغرب العربي، لأن ما بني على الرمال يظل دائما آيلا للسقوط. غير أن الحدث الثاني، والذي ادعى البعض أنه أثار بعض الأشقاء في مصر، كان انعقاد الدورة التاسعة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني في 15 نوفمبر برئاسة ياسر عرفات، والذي أعلن فيه عن قيام الدولة الفلسطينية، في اجتماع لم يحضره الرئيس الشاذلي بن جديد، ولم يكن عدم الحضور، كما فهمتُ، متعلقا بمعاناة الرئيس من ذيول أحداث أكتوبر 1988، وإن كان عدد الحضور من الجزائريين كبيرا ونوعيتهم متميزة، وسرت يومها إشاعات تقول بأن مصر يزعجها أن يتم أي أمر يتعلق بفلسطين أو بالسودان بعيدا عنها، وهو أمر لم يكن لنا يدٌ فيه، ولم تتأكد الإشاعة من مصادر مصرية في حدود ما أعرفه، ولم تكن العلاقات الديبلوماسية بين البلدين قد استأنفت آنذاك. والمهم، فيما يتعلق بهدف هذه الأحاديث، أن عودة العلاقات الديبلوماسية بين الجزائر ومصر بعد ذلك، وإثر قمة كازابلانكا، بدأت بتعيين قائم جزائري بالأعمال، ولم تحمل معها أكثر من عودة النشاط إلى السفارة، التي كانت هدية للجزائر من الناشط اليهودي المصري هنري كورييل بعد استرجاع الاستقلال، وإن كنت أشك كثيرا في تمكن معظم سفرائنا من التعامل مع بلد الاعتماد بناء على معلومات كاملة وتوجيهات مدروسة وعبر شبكات حقيقية من الأصدقاء، وربما كان من أسباب التعثر الأسلوب الذي يُتبع في الاختيار أحيانا أو ضعف الجهاز المركزي أحيانا أخرى، ولهذا حديث آخر. وبدأت الشهور الأولى من عام 1990 بتلاسن حاد بين الإعلام الأمريكي والعراق، وهو ما لحقته حملة صحفية بدأت في بريطانيا ثم شملت الغرب كله بعد أن حكمت بغداد بالإعدام على جاسوس إيراني الأصل يحمل جواز سفر بريطانيا، ونفذ الحكم في فارزاد بازوفت في 15 مارس (هيكل ص 238) وتزايدت الحملات بعد ادعاءات عن صفقة شراء مدفع عملاق من بريطانيا، ينقل إلى العراق على أنه أنابيب لإحدى مؤسسات البترول، ثم بدأت مبارزة كلامية بين مسؤولين عراقيين وإسرائيليين انحاز فيها الغرب تماما، كالعادة، إلى طروحات تل أبيب. ويتدخل الرئيس مبارك محاولا تخفيف التوتر بين بغداد وواشنطون فيقترح على وفد أمريكي من أعضاء الكونغرس كانوا يزورونه في مصر أن يقوموا بزيارة سريعة للعراق يسمعون فيها مباشرة من الرئيس صدام حسين، وهو ما تم فعلا بعد أن استشار البرلمانيون البيت الأبيض، وأعطيت لهم وثيقة تم فيه تسجيل ما يُراد إبلاغه للرئيس العراقي، فالقوم هناك لا يرتجلون ويحرصون على تنسيق جهودهم في كل المجالات. لكن شهر أغسطس 1990 يشهد زلزالا رهيبا في الوطن العربي، إذ يقوم العراق بغزو الكويت، مما قلب خريطة التحالفات العربية، ولن أدخل في التفاصيل إلا بالقدر الذي يتطلبه الحديث عن العلاقات الجزائرية المصرية، والتي تأثرت إلى حد كبير بما حدث. وباختصار شديد، كان العراق يحاول تضميد جراحه الناتجة عن الحرب العراقية الإيرانية التي أخمدت نارها في 1988، وكان من أهم نتائجها الخلل المالي الذي عرفه، والذي بدأ انخفاض أسعار النفط يقوده إلى مرحلة الخطر، وراحت بغداد تحاول تصعيد الموقف لإرهاب الكويت ومنعه من التلاعب في قضية النفط، ولعل الرئيس وجد فيما سمعه من غلاسبي سفيرة واشنطون في بغداد ما يُطمئنه إلى النتائج.