يوم أول أمس، كان للذكرى وللتوجع على بلد فقدته الأمة العربية منذ 62 سنة. مأساة الشعب الفلسطيني مستمرة منذ 1948، والأمل في العودة إلى الديار لازال قائما رغم كل النكسات التي ألمت بهذا الشعب. من أجل العودة إلى الوطن واسترجاع الأرض المغتصبة، جرب الشعب الفلسطيني كل الوسائل: مواجهة المستوطنين اليهود، اللجوء إلى دول الجوار، المقاومة، الثورة المسلحة، المفاوضات.. الخ، ولم يفلحوا في استعادة ولو أبسط الحقوق التي تمكنهم من العيش في أمن وسلام. لعل السبب الأول في عدم تمكن الفلسطينيين من الانتصار على الصهاينة يكمن في كونهم آمنوا، منذ 1948 إلى اليوم، بأن العرب سيأتونهم بحقوقهم وأن الأنظمة العربية ستحارب في يوم ما من أجل الشعب الفلسطيني. في حرب 1948، وجدت الأنظمة العربية )مملكة مصر، مملكة الأردن، مملكة العراق، سوريا، لبنان والمملكة السعودية( نفسها مضطرة، تحت ضغط الشارع، إلى دخول أول حرب عربية- إسرائيلية بدون أن تكون محضرة أو مهيأة لها؛ إذ في الوقت الذي كان اليهود الآتون، إلى فلسطين، من كل فج يتدربون وينشؤون أحدث جيش في المنطقة، كان بعض الحكام العرب يقضون لياليهم مع الراقصات اليهوديات اللواتي تمكن من الوصول حتى إلى مخادع بعض الملوك العرب والاطلاع على نواياهم وأسرارهم. في سنة 1967، أصبحت إسرائيل دولة مالكة لكل أسباب القوة، فاليهود الشتات عرفوا كيف يشيدون، بدعم من العالم الغربي وكل يهود العالم، وفي وقت قياسي، مجتمعا يحكمه القانون )بالنسبة لليهود طبعا( ويسوده العدل بين أفراده اليهود وتسند فيه السلطات والمسؤوليات للأجدر والأكفأ. كل ذلك بالاعتماد على العلم والبحث العلمي. في هذا الوقت بالذات، كان أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان يغرق في الفوضى والبيروقراطية وانعدام كل أنواع الحريات العامة، وفي حين تمكنت أجهزة الاستخبارات الصهيونية من اختراق جيوش دول الطوق العربية والاطلاع على أدق تفاصيل العمل والنظام بها إلى درجة أنها أصبحت تعرف حتى أسماء قادة الوحدات الصغيرة وأماكن سكناهم وأوقات التحاقهم بالعمل.. في نفس هذا الوقت، كان الخطاب الرسمي العربي يتحدث عن القوة العسكرية العربية التي ستلقي باليهود في البحر. ولما جاء وقت الحسم، لم يصمد جيش مصر وهي أكبر دولة عربية في المنطقة ولو لدقائق أمام الجيش الإسرائيلي الذي تمكن في الساعات الأولى من الهجوم من شل كل القوات الجوية على الأرض بعد أن دمر معظم الطائرات الحربية مما أفقد القوات البرية المصرية التغطية الجوية وجعلها تحت رحمة الصهاينة الذين تقدموا على الأرض واحتلوا كل سيناء في زمن قياسي. في هذا الجو المشحون بكل مظاهر الهزيمة في العالم العربي، راح بومدين يعلن من الجزائر أن الأمة العربية خسرت معركة مع العدو الصهيوني لكن الحرب معه مستمرة؛ وكي تستمر الحرب أرسل كل القوات الجوية الجزائرية إلى مصر لحماية أجوائها، كما أرسل أحسن الوحدات القتالية البرية إلى نفس البلد لتندمج مع وحداته المتبقية في عملية إعادة بناء دفاعاته. هذا ما فعله بومدين وقتها باسم الجزائر، لكن الأهم في مسعى بومدين، في نظرنا، كانت النصيحة التي تقدم بها لحكام بلدان الطوق حيث نصحهم بفتح الحدود للمقاومة لأنها وحدها من تقضي على إسرائيل. بومدين انطلق من تجربة الثورة الجزائرية التي واجهت بوسائل بسيطة للغاية واحدا من أعظم جيوش العالم في مرحلة الخمسينيات وانتصرت عليه؛ لكن العقل العربي لم يكن وقتها بقادر على استيعاب فكرة بومدين ولا الاستفادة من تجربة الثورة الجزائرية، وهو نفس العقل الذي يستمر، إلى اليوم، في إدارة الأزمات الكبيرة بكثير من الاستخفاف والقليل من الذكاء. في سنة 1973، كانت حرب أخرى لكن بمبادأة، هذه المرة، من الطرف العربي، مما مكن الجيش المصري من الاستفادة من عنصر المفاجأة وتحقيق الانتصار في الأيام الأولى من الحرب، وقد برع في إدارة هذه الحرب قائدها الفريق سعد الدين الشاذلي الذي أبعد من مصر ثم حوكم فيما بعد وسجن بتهمة »إفشاء أسرار الحرب«. الفريق سعد الدين الشاذلي خطط للحرب بكثير من الحكمة والدهاء، غير أن القيادة السياسية المصرية سرعان ما حولت النصر إلى هزيمة من خلال السماح بوجود ثغرة الديفرسوار التي أوحي لإسرائيل باستغلالها لمحاصرة جيش مصري كامل مما منح تبريرات للقيادة المصرية للدخول في مفاوضات الكيلومتر 101 التي كانت بداية لعلاقات مصرية إسرائيلية تدعمت بالموقف البهلواني الصدر عن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي أعلن وبحضور ياسر عرفاة، عن استعداده للذهاب إلى إسرائيل من أجل إقامة ما أسماه بالسلام. في زيارة الرئيس المصري إلى إسرائيل، وفي اللقاءات التي تلت ذلك والتي أدت كلها إلى كامب ديفيد، كل الذي كان يهم القيادة المصرية هو أن تستعيد سيناء بأي ثمن كان وأن يسند لها دور معين في المنطقة من طرف الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما حصل بالفعل، إذ استعادت مصر سيناء بدون سيادة فعلية عليها )أنظر محتوى اتفاقيات كامب دبفبد( وصرف لها مبلغ مالي بالدولار كمساعدات سنوية من أمريكا، مقابل إجهاض كل محاولة عربية للخروج عن الطاعة الأمريكية ولإلحاق أكبر ضرر ممكن بالقضية الفلسطينية وهو ما تقوم به القيادة المصرية الآن على أحسن وجه: المشاركة بوحدات عسكرية في حرب الخليج الأولى، توفير تسهيلات عدة للجيش الأمريكي خلال حرب احتلال العراق، حصار غزة، بناء جدار فولاذي تحت الأرض لمنع دخول المؤونة والدواء إلى أطفال غزة، قتل الفلسطينيين بالغازات الخانقة، الضغط على القيادة الفلسطينية للتفاوض بدون شروط مع الإسرائيليين... قلنا أعلاه، أن السبب الأول في استمرار مأساة الشعب الفلسطيني تكمن في أنه آمن بان العرب سيحاربون مكانه، أو يدعمونه بصدق، لاستعادة فلسطين، وقد مرت 62 سنة على النكبة والوضع العربي يزداد تدهورا والقادة العرب يزدادون خوفا من قوة إسرائيل التدميرية. ولأن الخوف يولد دائما المواقف المتخاذلة فعلى الفلسطينيين أن يدركوا اليوم بأن الجميع يتاجر بقضيتهم، وأن لا حل أمامهم سوى ظهور قيادة فلسطينية جديدة من شباب الانتفاضتين الأولى والثانية، قيادة لا ترتبط بالقيادات العربية الحالية وتتجاوز كل المتصارعين الفلسطينيين الحاليين لتعلن عن ولادة تنظيم فلسطيني واحد وموحد، مفتوح لكل الشعب الفلسطيني الواحد والموحد وله هدف واحد وموحد وهو: تحرير فلسطين.