ماذا لو كانت الجزائر تقع على محور البلدان التي تمر بها العواصف والأعاصير؟ هل كان يبقى لها من المدن الجميلة ما تفاخر به على الدوام ؟ بل هل كانت تبقى لها النسبة المعتبرة من تعدادها السكاني الذي ُتباهِي به شعوبًا غيرها ؟. ثلاث ساعات، وربما يزيد أو يقل قليلا من الأمطار، التي لا تعَدُّ غزيرة في دول متقدمة، كانت كافية لتُحدِث الطوفان عبر العديد من المدن الجزائرية، ويتحوَّل الشريط الساحلي إلى تجمعات بشرية يخنقها الطمي، فيشل الحياة فيها، بل وتمتد المأساة إلى سقوط ضحايا، ممَّن كانوا يعتقدون أنهم آمنون، وقد صدَّقوا أقاويل َمنْ يديرون شئونهم، ومرة أخرى لم يعترف أحدٌ بمسؤوليته فيما حدث، واعتبر الجميع أن هذه الموجة الضارية -التي كان يمكن تكسيرها- ما هي إلا قضاءٌ وقدر! بمجرّد أن انحسر الماء حتى انكشفت عورات التسيير، ابتداء من الإنجاز الذي ظهر سيئا على الطرقات والأرصفة والمباني، مرورا بالمراقبة التقنية التي ُيفترَض أن تكون صارمة في قبول العمل المُتقَن ورفض الأعمال المغشوشة، وانتهاء بمصالح الصيانة والمتابعة، التي لم تكتشف أن لديها قنواتٍ لتصريف مياه الأمطار، إلا حينما تحولت مختلف شوارع المدن والقرى والمد اشر، إلى أنهار جارية تجرف معها الماء والحصى والطمي والرواسب والفضلات، وكل مادة تدخل في فتح المسدود وسد المفتوح، خاصة بعدما تعرّت تلك المدن والقرى والمداشر من أحزمتها الخضراء، سواء كانت أشجارا أو مساحات فلاحية، واستبدلتها بشواهد إسمنتية انتشرت بفوضى مفزعة، كشهود إثبات على اغتيال الطبيعة، وانتشر الأعوان البسطاء المغلوبون على أمرهم، يصارعون الكارثة عبر كل الطرق التي لم يعد كثيرها صالحا للسير، مما زاد في اختناق حركة المرور المختنقة أصلا . يبدو أن السياسيين الذين اندسّوا في مرافق الشأن العام ، يكونون تغلبوا -بنفاقهم- على حقائق المجتمع، التي اجتهد الإعلام الصادق غير المضلل، في إبرازها وكشفها أمام الناس، ودقّ- بشأنها- كثيرا من نواقيس الخطر، التي باتت تهدِّد سلامة المواطن واستقرار المجتمع، ولكن لم يكن أحد مِمَّن يعنيهم الأمر يتحسس المخاطر التي هزّت المدن الغرْقَى في الأوحال، مع فجر إحدى الليالي الحالكات من خريف هذا العام، وإلا ما وقع الذي وقع، والذي لن يكون إلا مقدمة لفواجع أخرى- لا قدّر الله- طالما أن الكل تقريبا ُيفضِّل العمل بأسلوب رجال المطافئ . كثيرا ما نبَّهْنا ونبَّه غيرنا، إلى أن حماية المدينة- أي مدينة- من هجمات السيول المفاجئة والمعلومة أوقاتها، تبدأ قبل دخول فصل الخريف، من خلال تنقية كل المجاري وقنوات الصرف، ونقل بقايا مواد البناء المختلفة، بعيدا عن طريق سير المياه، حتى لا تتحول إلى متاريس في وجه المارة، أو ُتصبِح مصدر خطر يلاحقهم، مع كل قطرة ماء يفرح لها الفلاح، غير أن عدم التنسيق بين مختلف مؤسسات الإنجاز، وبين مصالح البلدية والولاية، واتكال كل جهة على أختها، كان وسيظل أحد الأسباب الرئيسية في الخسائر المادية التي وقعت، والتي يُتوقّع وقوعها، والتي كان يمكن تفاديها بأقل التكاليف، كما أنها سبب مباشر في سقوط الأرواح التي كان بالإمكان الحفاظ عليها، والتي حرّم الله قتلها، وقد راحت فقط ضحية التهاون، وعدم الشعور بثقل الأمانة، مع تنصُّل كِّل جهة من المسئولية التي ُحمِّلتها . إنني أعتقد- كما قلت ذلك في مناسبة أليمة شبيهة سابقة- أن الانسداد الواقع في قنوات صرف المياه، إنما هو صدًى صادقٌ لذلك الانسداد المزمن والمستقر، في عقلية كثير من مسيِّري الشأن العام، الذين يظهر أن ما انهمر مؤخرا من مياه، إنما جرف أول ما جرف، أولئك »الراسخين« في مسؤولياتهم لا يبغون عنها حِوَلاً، وهو ما يفرض على الدوائر التي تملك قرار التعيين وسلطة المراقبة، أن ُتفعِّل دورها، وتأذن لآليات المتابعة والدفاع عن الحق العام، أن تترك مربَّع التسييس والشعبوية المرير، وتنتقل إلى فضاء تطبيق القانون، ككل دولة تنشد التقدم، لأن أي تهاون في بناء المجتمع، سيؤدي إلى إهدار الإمكانيات المادية والمالية والبشرية، وأن أي تقصير في صيانة ما تم بناؤه سيخلق الكثير من التوترات الاجتماعية والسياسية الخطيرة، التي يمكن أن تُسقِط البناء كله وعلى مَنْ فيه، وتُدخِل الدولة والمجتمع، في فوضى لا حدود لها، هي كلُّ ما يرتجيه المتربصون، الذين لا يريدون للجزائر أن تنهض، ولا أن تتطوّر، ولا أن تزدهر ...