لا يجانب الصواب، من يرى أن حزب جبهة التحرير الوطني قد نجا قبل سنوات من هزة عنيفة كادت أن تجعل منه حزبين، ولا يحيد كثيرا عن الحقيقة، إن هو أكد بأن الفضل في بقاء الحزب متماسكا موحدا، إنما يعود إلى قيادة حكيمة، رفضت في أحلك الظروف أن تناور أو تساوم على وحدة الحزب وتكفله بكل أبنائه مهما بلغ بهم الشطط ومهما نأت بهم الحزازات والمصالح عن خط الحزب ووحدة مناضليه. الذين تابعوا- عن قرب وليس على صفحات بعض الجرائد- عملية تجديد الهياكل القاعدية للحزب على مستوى كل القسمات، يقرون بأن حزب جبهة التحرير الوطني قد استعاد صحته وعافيته وعنفوانه النضالي المعروف، بل إن تلك العملية، التي جرت في الغالبية الغالبة من القسمات في أجواء من الشفافية والهدوء، قد أعادت إلى أذهان المشككين الناقمين صورة حزب تجاوز مرحلة النقاهة ولم يعد في موقف الدفاع، بل في موقع الواثق في قيادته، المطمئن إلى قواعده والمتأهب لخوض كل المعارك السياسية ورفع التحديات. وهنا قد يقول قائل وما الذي حدث في هذه القسمة وتلك من تدافع وتناطح بين المناضلين، والجواب هو أن ما حصل من تسابق محموم وصل إلى حد التشابك في بعض القسمات لا ينبغي تعميمه أو الارتكاز عليه لإصدار أحكام ليست صحيحة ولا تعبر عن حقيقة الواقع. لكن الحقيقة التي يجب الإقرار بها ولا ينبغي القفز عنها أو التهوين منها هي أن الأفلان يواجه دائما بمواقف انفرادية تتنافى مع مصلحة الحزب وتضر بمكانته وسمعته. أما الحقيقة الأخرى التي ينبغي التوقف عندها بالرصد فهي أن الأفلان يمتلك طاقات هائلة وأفكارا حية وشخصيات ذات قيمة، لكن هذه الطاقات والشخصيات- البعض على الأقل- لم تدرك بأنه لا مخرج لها خارج إطار الحزب أو على حسابه. إن الانتماء إلى حزب يعني «عقد« انخراط في قيم وقناعات وسياسات مشتركة والالتزام بها، كما يعني قبول النقاش داخل ذلك الحزب للإتيان بأفكار وتصورات، أما الصراعات العبثية واتخاذ الحزب مجرد مطية لتحقيق المغانم والحصول على مكاسب ظرفية، فإن ذلك يشكل أكبر الأخطار التي تهدده. هنا ينبغي التوضيح أن الديمقراطية والانضباط لا يتعارضان بل يتكاملان، ولا اختلاف على أن الانضباط شرط لنجاح الفريق المنسجم، إذ تؤكد القاعدة أن كل واحد حر في التعبير عن آرائه وفي السعي لتحقيق طموحه المشروع، لكن ليس على حساب مصلحة الحزب، ولذا يجب تجاوز تلك الحالة التي تجعل الرؤى الضيقة والمكاسب الشخصية تطغى على المصالح المشتركة. إن كل أبناء الأفلان مطالبون باستيعاب الدروس من تجارب الماضي القريب والبعيد، وهي تؤكد: - إنه من الطبيعي أن يحرك كل استحقاق سياسي شهية الطامحين، كما أنه من العادي جدا أن يعرف حزب بوزن الأفلان ما يوصف ب «الحروب« الشرسة من أجل التموقع، لكن الدرس الذي يجب استخلاصه هو أن أخطر ما يمكن أن يهدد الحزب هو أن يتصور هذا أو ذاك، هذه المجموعة أو تلك، أن بالاستطاعة احتواء وتوجيه الأفلان حسب الأمزجة والأهواء أو استخدامه لبلوغ أهداف شخصية. - إن الأفلان أكبر من أن يقزّم أو يحجم في أشخاص أو مجموعة، فهو ليس ملكا لفرد أو تيار أو جماعة وهو ليس حزب زعامات أو أعيان، بل إن كل الوقائع تؤكد بأنه بحاجة إلى كل أبنائه الموالين والغاضبين «المهتدين« و«الضالين«. - ليس غريبا أن تعرف عملية تجديد الهياكل القاعدية حالة من الغليان ومن التشنجات والاحتجاجات وإلى غير ذلك من النعوت، لكن المحظور هو أن تطغى المصالح الضيقة والطموحات الشخصية على مصلحة الحزب كبرنامج وأفكار ومستقبل. تلك بعض الدروس التي يجب أن تحظى بالاهتمام وهي أجدر بالرصد من تلك المعارك الخائبة التي يريد البعض أن يسجن المناضلين في دائرتها المغلقة، وكأن المعركة لا تتجاوز حدود رفض فلان وعدم الرضا عن علان، مع أن المعركة الحقيقية هي بين الأفلان وخصومه، وهي أيضا كيف يكرس الأفلان مكانته في الساحة السياسية وكيف يصبح الحاضن للشعب والضامن لتجسيد طموحاته. صحيح أن المعارك الداخلية تترك دوما جراحا غائرة في صفوف المناضلين، إذ تنهك القوى وتشتت الصفوف، ولعل المطلوب في هذه المرحلة بالذات هو تكريس جبهة التحرير الموحدة والمتماسكة، التي تدرك أنه ليس من صالحها تضييع أي مناضل. إن المناضل الحقيقي لا يريد أن يرى جبهة التحرير الوطني مشتتة أو مشوهة أو عاطلة أو مهزومة، ولعله لا اختلاف على أن جبهة التحرير التي تبقى هي التي يكون منبرها فوق الأشخاص والزعامات، وأيضا هي التي لا تأكل أبناءها ولا تتنكر لرجالها ورموزها، وأيضا هي تلك التي تفرض الانضباط على الجميع، تحاسب وتعاقب وتطهر الصفوف من كل من يرى نفسه فوق الضوابط. وإذا كان من حق المناضلين، مهما كان موقعهم ومهما كانت مسؤولياتهم، أن يكون لهم رأي في حزبهم وأن ينتقدوا ما شاء لهم النقد، من أجل مصلحة الحزب أولا وأخيرا، فإنه من المهم أيضا أن ينتبه الناقمون المشككون إلى أنه من غير الممكن الحديث عن سلبيات ولو كانت كثيرة ما لم تتوفر إيجابيات ولو بدت في أعينهم صغيرة. «الضربة التي لا تقتلك تقويك.. « [email protected]