دولة بلجيكا التي تحتضن مقر الإتحاد الأوروبي تبلغ مساحتها حوالي ثلاثين ألف كيلومتر مربع، وسويسرا ذات الصيت الذائع في دنيا الذهب والمال والبنوك والحسابات السرية تزيد مساحتها عن الأربعين ألف كيلومتر مربع بقليل، أما هولندا، أو الأراضي المنخفضة، فتزيد مساحتها أيضا بشيء يسير عن الأربعين ألف كيلومتر مربع لكنها من أكبر منتجي الألبان ومشتقاتها في العالم. ربما يتسرب إلينا بعض اليأس والتشاؤم فنقول لأنفسنا إن تلك الدول في أوروبا وما أدراك ما أوروبا، وأين نحن من تلك القارة التي تجاوزتنا بمسافات طويلة في عوالم الاقتصاد والعمران والسياسة والتنمية البشرية.. لكن نظرة عابرة في خارطة العالم العربي كفيلة بتغيير الموقف حيث نجد دولة الكويت بمساحتها التي تقارب الثمانية عشر ألف كيلومتر مربع فقط وقد حققت معدلات عالية في الدخل الفردي والخدمات والبنية الأساسية وحرية الرأي والتعبير، ونجد دولة قطر بمساحتها التي تتجاوز الإحدى عشر ألف كيلومتر مربع بقليل وقد حجزت لنفسها مكانا إقليميا وعالميا واقتحمت السياسة من بابها الواسع ونافست دولا عربية أكبر منها مساحة وأوفر سكانا، ثم نجد لبنان صاحب العشر آلاف كيلومتر مربع وهو يناور ويحاور ويجتذب اهتماما دوليا وإقليميا وربما حقق تلك المقولة، رغم الاختلاف حول وجاهتها، قوة لبنان في ضعفه. يمكن أن يقال الكثير عن المساحات والأراضي والقفار والجبال والسهول والأنهار وعدد السكان وغيرها من العوامل الجغرافية التي تلعب دورا رئيسا في ثراء بلدان بعينها وتحوّلها إلى إمبراطوريات وقوى دولية تجوب أساطيلها البحار، كما حدث قديما، ويصل رعبها وتأثيرها ونفوذها الاقتصادي والسياسي إلى دول بعيدة كما يحدث خلال هذه العقود. وفي المقابل لا يعني صغر المساحة بالضرورة انكفاء على الذات وتسليما بقيود الجغرافيا، وحتى بموروثات التاريخ.. حيث يمكن لأي دولة، مهما كانت ضآلة مساحتها، لعب أدوار قوية ومنافسة الكبار عندما تتقن التحكم في فنون اللعب وتحسن التسلل من الثغرات ومن ثم الإمساك باليد التي تؤلم أولئك العظماء أو البحث عن أماكن رخوة في خواصرهم لتغرس فيها الإبر فيبدأ الوجع العلني والمكتوم وتتكسر بعض الإرادات.. وهكذا تتحقق للصغار، أو من اعتبرهم الآخرون كذلك، مصالحهم ويُحفظ لهم وجودهم ويثبتوا للعالم أن ميادين اللعب متاحة للجميع ويردوا على المتقاعسين الذين توهموا أن قدرهم هو الإمساك بذيل القافلة والانصياع لأوامر القوى العظمى، أو المراوغة حولها في أحسن الأحوال. الاستطراد السابق كله يستدعيه، في تقديري على الأقل، ما تشهده دولة السودان هذه الأيام.. وهي أكبر الدول العربية أرضا إذ تتجاوز مساحتها المليونين ونصف المليون كيلومتر مربع، وتحمل من الثروات الباطنة والظاهرة والأراضي الزراعية والرعوية ما يكفي، لو استغلت، أهل السودان وجيرانهم وجزءا كبيرا من سكان أفريقيا والعالم العربي. تشهد السودان تجاذبا حادا وعدا تنازليا نحو موعد الاستفتاء حول مصير الجنوب وما قد يحمله من نتائج ليست في صالح بقاء تلك المساحة الضخمة موحدة، مما يجعل السودان عرضة للتزحزح عن المرتبة الأولى عربيا من حيث المساحة فيفقد مفخرة ربما باهى بها إخوانه العرب الذين استهوتهم الإنجازات القياسية، فبعضهم يملك أعلى برج في العالم وآخر شيّد أكبر مصنع في أفريقيا وثالث أنجز أطول جسر في محيطه الإقليمي ودولة يحكمها أقدم رئيس في العالم المعاصر.. وهي إنجازات مهمة لو ارتبطت بالتنمية الحقيقية والعدالة والحرية والديمقراطية لأنها عماد الرقي والازدهار الحقيقي. وطبقا لنماذج الدول الصغيرة سابقة الذكر، عربية وغربية، يمكن اختصار ما يحدث في السودان والحديث باسم أشقائنا السودانيين، وهم أهل بساطة وطرفة وخفة دم، والقول: دعونا نفرّط في مفخرة المرتبة الأولى عربيا من حيث المساحة، واذهبوا يا أهل الجنوب إلى حال سبيلكم إذا كان في ذلك شفاء لصدوركم.. وما بقي لنا من الأرض وما في باطنها سيكفينا ويغنينا، وبيننا وبينكم الزمن فهو الكفيل بإقناعكم أن خيار الوحدة هو الأفضل وأن الوعود الدولية لن تغني عنكم شيئا.. فبعد أن ينفضّ الجمع وتتزحزح قضيتكم عن العناوين الأولى في وسائل الإعلام الدولية، وبعد أن تتوجه بوصلة الأحداث نحو وجهة أخرى ومصالح وأزمات جديدة تصنعها الآلة الأمريكية لتديرها وتستفيد منها كعادتها.. بعد ذلك ستواجهون الحقيقة كما واجهتها تيمور الشرقية، وكما واجهتها أيضا منظمة التحرير الفلسطينية التي وعدها الغرب بالعسل واللبن وأنهار الاستثمارات الأجنبية في غزة والضفة الغربية إذا اعترفت بإسرائيل وألغت من ميثاقها ما يدعو إلى دمارها واسترجاع دولة فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر. نعم يمكن اختصار الأمر بهذا الشكل، لكن هيهات فالقضية لا تخص أهل السودان وحدهم لأنها البداية وليست النهاية أو هي البداية والنهاية في الوقت ذاته.. فالتجربة ستعمم تلقائيا على عدد من الدول العربية التي تحمل بعض مواصفات السودان وجغرافيته وتنوعه العرقي.. وهكذا فوحدة السودان لمصلحة جميع الدول العربية. وربما يكون لدى الساسة السودانيين من التراكمات والمشاكل ما يحول بينهم وبين بذل جهود أكبر لاحتواء المشكلة وإقناع الجنوبيين بخيار الوحدة، أو تأجيل الاستفتاء على الأقل.. لكن العرب في يدهم الكثير، وفي وسعهم التأثير على ساسة الجنوب والجيران والتحدث بلغة الوعد والوعيد الاستثماري والاقتصادي، وحتى السياسي بعد التخلص من عقدة الخوف والتصرف بعيدا عن مواقف ورغبات السيد الأمريكي. ولو عجز العرب، لأن اللعب الآن قد يكون في الوقت بدل الضائع، فليس أقل من أن يحصّنوا أنفسهم لقابل الأيام وينخرطوا بصدق وجدّ في بناء دولة المواطنة الكاملة وسلطة القانون والحكم الراشد والتوزيع العادل للثروات، ومن هناك تكتسب الأجيال الحالية والقادمة حصانة ضد التدخّلات والألاعيب الأجنبية.