أعلنت وزارة الداخلية والجماعات المحلية أن تخفيفا جديدا وهاما سيمس مختلف الملفات التي يخاطب بها المواطنون إدارتهم بعد المتاعب التي قاسوْها في تكوين أيِّ ملف مهما قلّتْ أهميته، حتى أصبح مجرد التفكير فيه يثير الأعصاب ويزرع الإحساس بالألم، لا يتجاوزه إلا من ُأوتِي قدرة على تحييد إحساسه في لحظات التشنج التي تتميّز بها سلوكات الإدارة، وهو الإعلان الذي استحسنه كلُّ مَن تعرض إلى »إرهاب« الإدارة في علاقته الدائمة مع الدولة، حتى خرج كثير من المواطنين- كرها- من فضاء المواطنة، التي يبدو أن ممارسات هذا المرفق الحيوي، حوّلتهم إلى مجرّد أرقام تتنقّل من إدارة إلى أخرى في رحلة معاناة مضنية، وكأن ميكروبًا خطيرا ُيعشِّش فيها، وقد أضرّ بمناعة المجتمع بعدما فقدَ الجزائريون توازنهم، مما جعل كبار السن ممَّن عايشوا إدارة الاحتلال الفرنسي المُرحَّلة يقولون׃ إن إدارتنا الجزائرية ورثت عن تلك الإدارة، فلسفة الإذلال والقمع التي كانت تخص بها الجزائريين دون غيرهم . يتبادل الجزائريون أدوار الحڤرة على بعضهم، يمارسها عوْن البلدية، ويعيد ممارستها عليه عون البريد وُيكرِّسها عون الضرائب، وُيعمِّمها عليهم أعوان الشأن العام، سواء كانوا في المؤسسات العمومية أو الخاصة، في شكل دائرة ُمقفَلة تؤشِّر إلى أنها أصبحت »ثقافة« مجتمعية، تمتاز بالتشفِّي المجاني في المواطن المهدورة كرامته، على شبابيك إدارته وبأيدي إخوته وأبناء عمومته وشركائه في "المواطنة"، وكيْلا ُأتَّهَم بالمبالغة في تشخيص المشكلة، أدعو المشرفين على هذه الإدارة إلى القيام بزيارات- لا أقول مفاجئة كما يفعل بعض المسئولين الذين نجدهم يصطحبون معهم كاميرا التلفزيون ليشهدوها- زُورًا- على حرصهم الدائم على السير الحسن لمرافقهم الغارقة في التعثّر- ولكن أدعوهم لزيارات عادية كما يقوم أيُّ مواطن يطلب حاجته من هذه الإدارة أو تلك، وساعتها سيرى الحالة كما ُأصوِّرها ولو بقليل من التصرّف الذي لا يؤثّر على وضعية المشهد׃ عوْن ُمنكَبّ على مكتبه، لا يرفع رأسه أبدا إلى العيون الشاخصة إليه مهما كانت الفوضى التي تصله من وراء الشباك الزجاجي أو من فوق نصف الحائط الفاصل بينه وبين الزبائن، عوْن ثانٍ يُحمْلِق من كرسيِّه الدَّوار عادة فيمن يطلبون حاجاتهم من إدارته، وهو يتمتم بكلام سيِّءٍ غير طيّب في حق هؤلاء الذين استفزّه سيْلهم الذي لا ينقطع، وعوْن ثالث انزوى في ركن من الساحة الفسيحة المكشوفة، يتحدّث في هاتفه المحمول، ضاحكا مرة ومقهقها أخرى في الوجوه المتوتّرة ، ويقسم لمحدّثه أنه لا يستطيع الحضور إليه، لأنه منهمك جدا في العمل، ومجموعة من الأعوان يجلسون بعيدا في كوكبة، يتبادلون الحديث وكذلك رشْف القهوة من كوب بلاستيكي أحضره لتوّه أحدهم من المقهى المجاور. رغم أن الإدارة الجزائرية تعيش حالة مزمنة من التأزّم المركّب، إلا أن هذه الأزمة تشتدّ من إدارة إلى أخرى مع احتقان سياسيي يظهر هنا أو توتّر اجتماعي ينفجر هناك، ولعل ما ُيتْعِب المواطن هذه الأيام هو ندرة السيولة المالية، وترتفع درجة الضغط كلما ابتعد الإنسان عن العاصمة أو كبريات المدن الجزائرية، ويصبح المواطن العامل كالشحاذ المنبوذ أمام مكاتب البريد التي لا تنعدم فيها النقود فقط، إنما اختفت من وجوه عمالها أيضا علامات البشاشة وحسْن الاستقبال، التي تُعَدّ إحدى أدوات العمل العمومي والجواري، حتى أن أحد العائدين إلى طوابير انتظار الإفراج عن أجرتهم الشهرية، راح ينكّت بألم ويقول لرفيقه في الطابور׃ إن لم أحصل على دراهمي الحلال اليوم بعد كل هذه الأيام، فإنه لم يبق لي إلا أن "أغزو" غدًا المكتب البريدي الذي أصادفه، أتلثّم وأستأجر مسدسا أُشْهِره في وجه الأعوان، لأسحب مالي الذي تناقص بعد عمليات الاقتراض المُذلّة وأهرب، تماما كما يصنع اللصوص المحترفون، وقد ُيترجِم هذا اليائس نكتته إلى واقع، فاليأس من أزمة لا تجد إلا الوعود المتكرّرة بحلها من أصحاب الحل، قد يفعل صاحبه بنفسه ما لا يفعله العدوُّ بعدوّه . شكوت إلى رئيس دائرة قريبة من ولاية الجزائر- وقد ظفرت بمقابلة عاجلة معه- الفوضى التي تعيشها إحدى مصالحه الحيوية التي قصدتها، ونقلت له استنكار المواطنين للمعاملة المتخلّفة التي يلاقونها من طرف أعوان إدارته، فقال لي׃ وهل تُريدني أن أقوم بعمل كلِّ عون متقاعس غير منضبط،، أم أضع على رأس كل واحد من العمال شرطيًّا يراقبه؟، تذكّرت فجأة بعض الإدارات الغربية المتطوِّرة التي نصبت كاميرات لها في كل مصلحة، ُتعدِّد على العاملين حركاتهم وسكناتهم، متى دخلوا وماذا فعلوا في كل دقائق وجودهم، وما حجْم عملهم، وعلى أية ساعة خرجوا، ثم عدت إلى نفسي لأقول للسيد رئيس الدائرة وأنا أصطنع ابتسامة عابرة׃ لم يقل أحد عاقل بذلك، إنما الإدارة الناجحة كما يقول علم الإدارة، هي تلك التي لا يقوم فيها المسئول أو المدير أو الرئيس بكل العمل بنفسه في كل الوقت، إنما هي تلك التي يعرف هؤلاء كيف ُيوَظِّفون كل عون فيها في مكانه ووقته المناسبين . أعتقد أنه لمحاصرة"ظاهرة" الفوضى والتسيّب- التي تؤدّي إلى قمع المواطن وإذلاله وحمله على استعداء إدارته- ينبغي تعيينُ الإداريين الأكفاء على رأس كل مصلحة، مُتجرِّدين من أثواب الحزبية المقيتة، وغير مصابين بأنفلونزا السياسة القاتلة، وربما يكون ذلك جزءا من التغيير الشامل الذي يطلبه المواطن، وتُلِحّ عليه النخب الثقافية والسياسية، إنه التغيير الجاد المُفْضِي إلى الإصلاح الإداري الذي ُيرشِّد عمل الإدارة ويعيدها إلى القيام بدورها الحقيقي في استقرار الدولة وخدمة المواطن، حتى يتفرّغ هذا الأخير إلى خدمة الوطن ويؤدِّي واجبه تجاهه، وما لم يصاحب تخفيفَ إعدادِ الملف- الذي بشّرت به وزارة الداخلية والجماعات المحلية- المواطنين القضاءُ على استخفاف الأعوان- في أي موقع كانوا- بالعمل وتدنيسه بدل تقديسه، فإن ذلك الجهد سيظل ناقصا، بل وسيظل الجزائريون يتداولون الإهانة على بعضهم البعض، ومن َثمَّ يُبْقُون إدارتهم على هذه الحالة المتعفّنة، فتصبح- حتما- واحدة من منتجي الألغام المميتة أمام الدولة، التي سينفجر فيها المواطن في أوقات غير معلومة، يعيد بها حساب الزمن الجزائري إلى بداية العدّ ...