هل ما يقوم به الرئيس الفرنسي تجاه الإسلام في فرنسا، هو مجرّد هروبٍ من المشاكل التي أدخل فيها فرنسا ويمكن أن تُخرِجها من صفوف الكبار في أوروبا كما يقول بعض السياسيين، أم هو حملة مدروسة منظّمة على الإسلام، يشنها الغرب المتطرِّف الذي يكون وجد في الساركوزي رأسَ حربة لهذه الحرب الصليبية الجديدة كما يرى كثير من المحللين والجمعيات الإسلامية في أوروبا، أم أن الرجل اغتاظ فعلا لحال المرأة المسلمة المتردِّي فهبّ مدافعا عنها من أجل إعادتها إلى العصر بعد أن سجنها النقاب والبرقع كما يقول في دفاعه عن حملته؟ يبدو أن الأمْريْن الأولين هما اللذان يُشكِّلان الواقع في فرنسا اليوم للأسف أما الأمر الثاني فليس إلا ذرًّا للرماد في عيون الفرنسيين الذين يمكن أن يُفاجأوا بصراعات دينية يمكن أن يتجاوز أذاها الديمقراطية في هذا البلد . لم يستطع الرئيس الفرنسي منذ توليه الحكم أن يفي بوعوده التي ربح بها سباقه في الوصول إلى قصر الإليزيه ، ولم يجد الحلول السحرية البعيدة التي كان يراها قريبة لحل المشاكل المتراكمة، فاتخذ سياسة الهروب إلى الأمام واختار الدَّوْس على ما يعتقد أنه الطرف الأضعف للمرور بعيدا عن المشاكل الرئيسية لفرنسا، ولأن الإسلام هو أكبر سِجلٍّ تجاري يستثمر فيه السياسيون الغربيون المتطرِّفون- لكسب المزيد من المريدين بعدما لم يجدوا ما يقدِّمونه لهم- من خلال صناعة التخوبف التي تأسست لها مكاتب دراسات تفننت في الابتزاز، هدفها إنتاج الكراهية والعنصرية إزاء المسلمين، فإن سكان الضواحي المسلمين كانوا الضحايا الأوَّل في حملة هروبه من الواقع الفرنسي الذي كاد أن يُقلِع بفرنسا إلى المجهول، غير أن تأطير الجمعيات الإسلامية للحالة الجديدة قد فكّك ما كان يُنذِر بالكارثة . يشهد أحد الفرنسيين- من ذي العلم والمعرفة- الذين أسلموا منذ أكثر من ثلاثين عاما، أن نسبة لا يستهان بها من المجتمع الفرنسي تكره المسلمين بشكل مقيت، يتزعّمها اليمين السياسي الذي أصبح يتنافس فيما بينه على مَن يتطرّف أكثر ضد الأجانب وخاصة المسلمين، وقد يكون الرئيس الفرنسي دخل هذا المضمار بقوة، حينما لم يُثِره في فرنسا كلها غير بعض الفرنسيات المسلمات اللواتي فضَّلن ممارسة حريتهن في التّنقُّب أو التّبرقع وهن يعتقدن أنهن في بلد شعاره الحرية أولا والحرية أخيرا، ولم برَ غير بضع مئات من المنقبات أو المتبرقعات راح يطاردهن في حريتهن عبر الفضاء العمومي . الغريب في حكاية ساركوزي مع النقاب والبرقع أن الرئيس الفرنسي يدَّعي أنه إنما يفعل ذلك بداعي الشفقة على النساء المسلمات، وأنه ما قام بذلك إلا من أجل تخليصهن من الوضعية المهينة، لأن هذا الهندام الذي ترتدينه ليس زيا دينيا ولكنه رمز لاستعباد المرأة، وكأنه أحرص على هذه المرأة التي يريد أن يتهمها يالقصور ويحاول فرض وصايته عليها، ولهذا مزّق وشاح الديمقراطية الشفاف، وقال إن البرقع والنقاب غير ُمرَحّب بهما في فرنسا، بل تحوّل هذا القول إلى جدال دام أزيد من ثلاث سنوات، دخل بعدها إلى الجمعية الوطنية الفرنسية لتُخرِجه- بعد تحايل على الرأي العام- قانونا قبل ستة أشهر مضت، يُوقِف ويُغرِّم كل منقبة في الشارع أو الساحات أو الأماكن العمومية، ويسجن ويضاعف الغرامة على كل من يُتّهَم بالدعوة إلى هذا اللباس أو فرضه على الأخريات، وكأن المنقّبة أو المتبرقعة أصبحت خطرا على جمهورية ساركوزي . قبل الشروع في تطبيق هذا القانون راح يُمهِِّد له بنقاش تجنّد- للتبشير بمزاياه- الإعلام المناهض للتسامح والمحرِّض على العنف ضد الإسلام، يدعو إلى إعادة النظر في مكوِّنات الهوية الفرنسية، وهذا النقاش- وإن كان في حد ذاته ُسبّة لفرنسا- فإنه كان يهدف إلى إخراج واحد من مكوِّنات تلك الهوية وهو الإسلام، حتى وإن كان ثاني ديانة رسمية يعتنقها الفرنسيون سواء كانوا أصليين أو متجنسين، ولأن النقاش كان عقيما فقد جفّ بسرعة ما جعل عرّاب التطرف يدعو إلى نقاش "وطني" آخر حول الإسلام واللائكية، وكان هناك صراعا بينهما، حاول توجيهه إلى وِجهة يفرض معها ديكتاتورية العلمانية على سماحة الإسلام- الذي يعتبر التّنقّب والتّبرقع رأيا لبعض قلةٍ من علمائه لا تُلزِم الأغلبية- وإلا كيف نُفسِّر تدخّله في الشأن المسجدي ودعوته إلى ضرورة تعيين أئمة المساجد في فرنسا من طرف الحكومة الفرنسية، وهي التي لا تتدخّل- باسم اللائكية- في تعيين القساوسة والربّيين على كامل التراب الفرنسي ؟ إنني لا أريد أن أُتَّهَم بالمبالغة إذا قلت إن المهاجر عادة أشد خطرا وتضييقا على زميله المهاجر مثله وإن اشترك معه في المواطنة، كذلك هو حال نيكولا ساركوزي القادمة عائلته إلى فرنسا بعد كثير من العائلات المهاجرة إليها مِمّن يحاربهم اليوم في خصوصياتهم التي أضافوا بها كثيرا من القيّم أثرت الهوية الفرنسية، وربما تفوقه في حب فرنسا والدفاع الصادق عنها بعضُ المنقَّبات أو المتبرقعات اللواتي أوقف بعضهن بالشارع في أول يوم من دخول قانون حظر البرقع والنِّقاب(11-04-2011)، ولكنها روح التّطرّف المتأجِّجة ضد طائفة دينية ُتعتبَر حلقة قوية في النسيج الفرنسي العام وضد الإسلام كذلك، إنها الروح التي تكون اختطفت الجمهورية إلى مزالق خطيرة، وكشفت عن وجه الحكومة الفرنسية الحالية الذي لا يختلف عن وجه أية حكومة من العالم الرابع، كانت تُعيِّرها بالتخلف وعدم التسامح، حينما ساقت نفس المبرِّرات لتوقيف المحتجِّين على تطبيق هذا القانون الذي قال عنه الموقوفون إنه يحمل مخاطر كبيرة على السلم الاجتماعي . لم يكن الإسلام في يوم من الأيام معضلة لفرنسا، بل كان وما زال أحد قيّمها المضافة، ولم يخلق المسلمون في فرنسا أية مشكلة لكل الجمهوريات المتعاقبة، بل كانوا أحد بناتها في السلم والمدافعين الأشاوس عنها في الأزمات والحروب التي مرت بها حتى قبل أن تهاجر إليها عائلة السيد ساركوزي، إذن لا يمكن أن يدخل الحراك السلبي الذي أثاره الرئيس الفرنسي، إلا في إطار الالتفاف عن مشاكل فرنسا الحقيقية من جهة، ومحاربة الإسلام من جهة ثانية، حتى يظهر أنه بطل التطرّف الغربي الذي يُجدِّد أصحابُه صليبيَّتَهم بوسائل عصرية بعدما فقدوا كل مبرٍّرات المشاركة السياسية البنّاءة، ولكنه لن يجد نفسه في مجابهة أكثر من مليار مسلم فقط- يعتقد أنهم بعيدون عنه- ولكنه سيضطر إلى مواجهة جزء كبير ومُهِم من مواطنيه، أعتقد أن الوقت لم يفُتْه كله، فبإمكانه أن يعيد تصويب رؤيته للأشياء من حوله، بإعادة قراءة الوقائع والأحداث بعيْني المحامي الذكي، إذا ما أراد إجادة المرافعة وربْح القضية معها، وليترك مواطناته المسلمات يمارسن حريتهن في السترة والفضيلة التي يعتقدن أنها مصانة وراء البرقع والنقاب، كما تمارسهن أخريات في التعرِّي والرذيلة التي تقلن إنها إثبات لوجودهن في الحياة ...