أين الإسلام في الثورة التحريرية وهل كان حاضرا بقوة؟ وإذا كان كذلك، فأين كان عندما دخلت فرنسا إلى الجزائر؟.. سؤال طرحه أحد الأساتذة خلال مناقشة تلت إحدى ندوات الملتقى الوطني الأول للعلامة سيدي محمد التواتي ببجاية الناصرية.. ذلك الملتقى الذي اجتمع شمله مؤخرا وحملت طبعته الأولى عنوانا ثريا وقويا وهو: إسهامات علماء منطقة القبائل في الحضارة الإسلامية والإنسانية. السؤال تلقّى إجابة (قاضية) عبر تعقيب أكثر من محاضر، لكنه مثّل نموذجا لتلك المغالطات التاريخية التي رددها سياسيون ومثقفون وباحثون على مدى العقود الماضية.. مغالطات تتعلق بالهوية الثقافية والمرجعية والثوابت والمحطات المهمة في التاريخ الجزائري الحديث، ومن نافلة القول التأكيد على أن توجيه النقد لذلك السؤال ليس دعوة للجمود والحجر على أفكار الآخرين، بقدر ما هو تنبيه لأولئك الغافلين الذين يكررون أوهاما تصادم الحقائق التاريخية، فيحرّكون بالتالي مشاعر الغضب ويدفعون آخرين إلى مواطن الردود المتطرفة، ومن هناك تنفتح أبواب الفتن على الأمة وينشغل العامة والخاصة بتداعياتها. الملتقى المذكور كان فرصة لاجتماع عدد معتبر من الباحثين والأكاديميين والمثقفين، كما مثّلت جلساتُه العلمية مائدة حافلة بالتاريخ وتجلياته الجميلة في بجاية الناصرية عاصمة بني حمّاد وما حولها، وأكثر من ذلك بلدان الضفة الأخرى التي استفادت من معاهد ومدارس منطقة القبائل قبل قرون عديدة، وأبعد من ذلك بلاد الشام والمشرق العربي التي هاجر إليها علماء كثيرون من مناطق زواوة وآيت منقلات ومشدالة وغيرها، وهناك برزوا في الفتوى والقضاء والتدريس وأثّروا في مجريات السياسة والحكم وتركوا لمن بعدهم مؤلفات قيّمة. الزمان والمكان كان له دوره البارز في إضفاء أهمية بالغة على هذا الملتقى العلمي؛ فالمكان هو بجاية وبلاد القبائل التي يتوهم البعض أنها تربة صالحة لغرس الأفكار الدخيلة على بلادنا وتاريخنا وحضارتنا، والزمان هو هذه السنوات التي تكاثر فيها الحديث عن التنصير والمنصّرين ونجاحهم المزعوم بين الشباب الأمازيغي، لأن الذي يسمع عن المنطقة من بعيد يعتقد أن الأمازيغ الأحرار ليسوا سوى تلك الحفنة من مدمني التصريحات الإعلامية المعادية للثوابت والمجافية لجميع حقائق الماضي والحاضر. بداية أشغال افتتاح الملتقى كانت آيات من القرآن الكريم تلتها طفلة صغيرة لم تتجاوز السنوات الخمس الأولى من عمرها، ثم نشيد وطني، ليس عبر أجهزة صوتية، كما صار يستسهلها الكثيرون، بل من خلال أصوات فرقة طيور الأمل البجاوية التي جسّدت التقاليد والدين في لباسها الذي حمل الألوان الثلاثة للعلم الوطني، وبعد ذلك أتحفت الفرقة الحضور بنشيد ترحيبي باللغة العربية.. ثم استفاض الحديث من المحاضرين والمعلقين حول منطقة القبائل وتاريخها وهويتها، وجهود علمائها واهتمامهم بتعليم النساء قبل قرون عديدة، وبين النسوة المتعلمات تلك الأعجوبة المعروفة ب (رقية البجاوية) التي قدّمت أطروحة في علم الفلك ناقشها العلماء ثلاثة أيام متواصلة. وبما أن منطقة القبائل ما زالت تواجه سهاما مسمومة تحاول التشكيك في الهوية والموروث التاريخي، وعودة إلى ذلك السؤال الغريب آنف الذكر، وتزامنا مع هذه الأحاديث الطويلة العريضة عن الإصلاحات الدستورية في بلادنا؛ يحسن بجميع الفاعلين في الساحة الوطنية التوجه من جديد إلى ملفات الهوية الوطنية بمختلف أبعادها.. توجّه إيجابي عبر حوار بناّء تشارك فيه جميع الأطياف.. حوار يستبعد أيَّ إغلاق بالشمع الأحمر لتلك الملفات، ويرفض في المقابل أن تكون ألعوبة خطيرة بين مدمني الإقصاء ورفض الآخر سواء من هذا الطرف أو ذاك، لأن إنكار الحقائق والقفز على التاريخ خطر على مسار الأمة، وهو تطرف يؤدي إلى نشأة تطرف مضاد، وعندما يلتقي هذا مع ذاك يحصل الاتفاق على العنف والدمار ومن ثم الولوج في نفق مظلم يدرك العقلاء أكثر من غيرهم خطورته البالغة وأثاره القاتلة على حاضر الأمة ومستقبلها. في قضية بلاد القبائل نجد من يتحدث عن الأصل العربي للأمازيغ ويردّ اللغة الأمازيغية إلى الحِمْيرية القديمة، وبالتالي فالقوم من عرب الهجرات القديمة، وأدلة هذا الفريق كثيرة، ومنها أن الفاتحين العرب اندمجوا مع أهل الشمال الأفريقي بسهولة بسبب التشابه اللغوي، كما أنهم لم يطلقوا على أهل هذه البلاد تسمية (العجم) كما فعلوا مع أماكن أخرى في آسيا.. وهذا الفريق ربما يعتقد أن المسألة تُحل عبر هذا المسار وتنتهي الإشكاليات القائمة إلى الأبد. لكن القبول بهذا الطرح لن يحل المشكلة، فبلاد القبائل لها خصائصها الثقافية واللغوية رغم انخراطها في النسيج العام للجزائر دينيا ولغويا وحضاريا، وتلك الخصائص هي التي وفّرت ذريعة لفرنسا، منذ احتلالها للجزائر، لتتحرك في المنطقة وتحاول زرع فكرة علاقة القبائل بسكان الضفة الشمالية للمتوسط، وبعد الاستقلال كانت الجمهورية الفرنسية تسابق الزمن على ما يبدو عندما أسست الأكاديمية الأمازيغية، في حين كانت حكومات جزائر الاستقلال تتغنى بالعروبة وتفرضها على الجميع وكأنها دين خالد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وفيما ظلت فرنسا ترتدي مسوح الدفاع عن الأمازيغية؛ تأخرت الجهات الرسمية عندنا في الاعتراف بالأمازيغية، ولما اعترفت بها سلّمتها لعناصر اختلط فيها الفرانكفوني بالأمازيغي، بينما كانت مصلحة الوحدة الوطنية تقتضي توجيه الجهود نحو أمازيغية وفيّة للحرف العربي والتراث الإسلامي. فما أحوجنا اليوم، قبل الغد، إلى أكاديمية جزائرية تطوّر الأمازيغية.. وما أحوجنا إلى رؤية الأمازيغية في جميع الجامعات الجزائرية لأن الإسلام والعربية أولى بها من فرنسا الاستعمارية.. إنها أمانة في أعناق المدافعين عن وحدة وسلامة وهوية هذا الوطن، لأن ترك الأمازيغية بين أيدي عناصر مشبوهة سيفتح الباب على مصراعيه أمام الطامعين المتربصين القابعين هناك على الضفة المقابلة.