قبل عدة أشهر، تلقيت رسالة على بريدي الإلكتروني من الدكتورة السورية أميمة أحمد تلوم فيها المثقفين الجزائريين على عدم اتخاذ موقف إيجابي تجاه الشعب السوري وما يتعرض له من قمع وقتل على يد رجال بشار الأسد، ثم تلقيت رسالة ثانية تدعو فيها المثقفين الجزائريين إلى المشاركة في تنسيقية جزائرية لدعم الشعب السوري؛ وهو ما تم بالفعل وكانت لبعضنا عدة وقفات تنديدية أمام السفارة السورية بالجزائر. لعل الكثير من الأشقاء في سوريا، خاصة المثقفين، لا يدركون الأسباب التي تجعل الجزائريين لا يعبرون علنية عن موقفهم تجاه ما يجري في سوريا، كما لا يدركون بأن موقفنا إن شابه التذبذب فليس لقلة شجاعة أو لعدم مبالاة بمعاناة أشقائنا في سوريا. المشكل هو أن المثقف الجزائري، المتعود على تلقي الضربات المؤلمة والقاسية من الغرب وخاصة من الولاياتالمتحدةالأمريكية، لا يستطيع أن يهضم كون هذه الدولة تتحول فجأة إلى راعية لحقوق الإنسان ومدافعة عن حرية الشعوب؛ ولأن الولاياتالمتحدة والدول الغربية كلها تعلن وقوفها إلى جانب الشعب السوري فإن هذا يجعله (المثقف الجزائري) يتردد في إعلان موقفه حتى لا يجد نفسه في نفس الخندق مع البلد الذي أحتل العراق ودمره وخربه ويدعم إسرائيل ويمدها بكل أسباب القوة لتواصل قتل الفلسطينيين. المفارقة هي إنه في الوقت الذي لا يمكننا فيه التخندق مع الأمريكان لمساندة أية قضية مهما كانت تبدو عادلة، فإنه لا يمكننا البقاء صامتين تجاه ما يجري في سوريا. الوضع هو جد خطير وليس وليد اللحظة، فقد تلقى الشعب السوري، على مدار أكثر من أربعين سنة من حكم عائلة الأسد، الكثير من المهانة والاحتقار والظلم والتضييق على الحريات والمس بكرامة المواطن. منذ توليه الحكم، سنة 1970، عمل حافظ الأسد على جعل سوريا ملكا للعلويين فقط، هم وحدهم من يتولون المناصب العليا في الدولة والجيش وهم وحدهم من يسيطرون على أهم مصادر الثروة وشركات الاستيراد والتصدير في البلد. نظام الأسد لم يكن يختار، من بين غير العلويين، سوى بعض الشخصيات الضعيفة لمنحها مسؤوليات »شرفية« لا يستطيعون من خلالها التأثير في طبيعة النظام ولا إحداث أي توازن مع العلويين. في سوريا، يمكنك، كما قال لي أحد الأساتذة الجامعيين هناك، أن تفعل أي شيء وأن تتاجر بأي شيء دون أي مشكل لكنك تعرض نفسك وأهلك لأخطار كبيرة إن أنت تكلمت في السياسة. لا أحد في سوريا يستطيع أن ينقد النظام أو حتى يبدي ألمه من ظلم يلحقه من أحد العلويين. كلمة »مخابرات« هي من الكلمات التي تزرع الرعب في نفوس السوريين؛ فقد أقام هذا الجهاز شبكة من المخبرين تنتشر في كل أرجاء البلد، تراقب الجميع وتتنصت على الجميع وتعد أنفاس كل الشعب السوري فلا أحد يفكر في معارضة النظام، وإن وقع شيء من هذا القبيل، كما حدث في حماه سنة 1982 فأن الدبابات جاهزة لسحق البيوت بما فيها من ناس وهم نيام. الشعب السوري تحمل كل هذا في صبر كبير وبصمت رهيب جعل النظام السياسي يعتقد بأنه لان وقبل بعائلة الأسد لتحكمه إلى الأبد، خاصة وأن الخطاب السياسي يقدم دمشق على إنها عاصمة الصمود وعدم الموالاة. الكثير من المثقفين العرب ظلوا يتجنبون توجيه أي نقد للنظام السوري لأنه الوحيد الذي بقى صامدا لا يقيم علاقات مع الكيان الصهيوني، كما إنه الوحيد الذي دعم حزب الله في لبنان خلال حربه ضد الجيش الإسرائيلي. الشعب السوري عانى كثيرا وتخلى عن حقه في التمتع بحرية الكلام وحرية اختيار من يمثلوه خارج حزب السلطة الذي ألهوه وقدسوه وجعلوا منه الحاكم والقائد والموجه فلا شيء يتحرك بدونه ولا شيء ينجز خارج إطاره، هذا الشعب عانى دون أن يرى نتائج لمعاناته فلا الجولان عاد لسوريا ولا نظام الأقلية أدرك بأن عليه أن ينفتح على أبناء الوطن دون تمييز. ولأن الأنظمة التي تحكم العالم العربي هي في معظمها ديكتاتورية ومتخلفة ولا تهتم بالرأي العام ولا بما يسمى رأي الأغلبية، فقد بلغ احتقار الشعب السوري حد توريثه بالجملة لشاب كان يتابع دراسته في الخارج. النظام السوري ابتدع مسألة توريث البلاد والعباد، فعندما توفى الأسد الأب بعد ثلاثين سنة كاملة من الحكم المطلق، اجتمعت العائلة وقيادة البعث وقررت تغيير الدستور في مدة ساعتين لإنزال السن القانوني للترشح لمنصب رئيس الجمهورية بما يتناسب مع سن الابن بشار الذي عاد إلى دمشق ليتولى منصب والده. مسألة التوريث كانت أكبر صدمة أيقظت الشعب السوري من التضليل الممارس عليه من طرف حزب البعث ووسائل دعايته. التوريث، في نظام جمهوري، معناه احتقار الشعب واعتباره غير ناضج وغير مؤهل لحكم نفسه بنفسه؛ كما إنه اختلاس لبلد كامل في وضح النهار وبشهادة الجميع. التوريث هو أيضا أسوا من الاستعمار نفسه وهو استيلاء على السلطة باستعمال وسائل الدولة، وهو أخيرا حرمان المواطنين من أبسط حقوقهم. ومع ذلك، فقد رأى بعض المثقفين العرب في وصول الشاب بشار، الآتي من جامعة بريطانية، فأل خير لأنه من المؤكد إنه سيعمل على تغيير نظام الحكم المترهل بفعل سنوات حكم والده الهرم، وذلك بإدخال إصلاحات عليه. حتى الصحافة السورية راحت تبشر بعهد جديد يقوده هذا الشاب الذي يجيد استعمال تكنولوجيات الإعلام والاتصال –كما قالوا- بشار الأسد، من جهته، راح يعلن بان أشياء كثيرة هي غير سليمة ويجب أن تتغير وأن هناك حريات كثيرة يجب أن تعاد للمواطن؛ لكن السنوات تمر دون أن يظهر أي أثر للتغيير الذي ترقبه الشعب السوري، فثار هذا الشعب ليصنع تغييره بنفسه. رغم أن الرئيس السوري درس في الغرب ويعرف كيف هي الأمور هناك ويدرك معاني حقوق الإنسان وأهمية الحريات خاصة في زمننا هذا، كما أن سنه ومستواه التعليمي كانا من المفروض أن يساعداه على إدراك بأن الحكمة تقول بأن على أي حاكم أن يحضر لنفسه باب خروج مشرف يلجأ إليه في وقت الشدة، ومع ذلك وعوض أن يبادر، منذ بداية الأحداث، إلى الإعلان عن تغييرات جذرية في طبيعة نظام الحكم وأن يعلن عن استعداده للتنحي بعد فترة قصيرة توضع خلالها آليات حكم جديد؛ عوض أن يفعل ذلك راح يواجه الانتفاضة الشبانية بالرصاص؛ ولأن الدماء، عندما تسيل من أجل قضية عادلة، فإنها تجلب المزيد من الدماء وتجعل النظام يغرق ليصل إلى حد لن يكون أمامه سوى الزوال أو الانتحار، فإنه لم يعد أمام نظام الأقلية العلوية سوى الزوال والاندثار ليفتح المجال أمام أوضاع أخرى سيكون للولايات المتحدةالأمريكية دور في تحديد بعض معالمها. ويبقى المسؤول عن كل ما حدث، أو سيحدث لسوريا، هو النظام السياسي الذي بلغ به التطرف واحتقار الذات الإنسانية حد توريث شعب برمته.