كان يحاول أن يحتال على الموت ويختار هو زمن ومكان الرحيل، بعد أن يطلّ على البحر وعلى حيفا طلة أخيرة، بعد أن كان يطلّ عليها وهي في قلبه وهو شريد، ليزهو بموت جميل على قمة الكرمل، ليسمو هناك بتابوت من الياسمين والنعناع وزهر اللوز يذيب جسده على مهل، لكن الموت كان يتربص به في زمن ومكان آخر، وكان مستعدا للموت مع أنه كان يحتال علية بحبه للحياة فوق الأرض، فعندما تبادل مع جمهوره الزهور في قصر الثقافة عندما أضاء سماء رام الله، قبل أسابيع ساورني الشك بأن محمود درويش يودع الحياة على طريقته الخاصة. رحل هوميروس فلسطين شاعر الإنسانية، وترك ظلّه، وزيتونا وذاكرة، وفارسا في قصيدة. لم يولد محمود درويش قرب البحر، لكنه ولد في قلب الجليل الفلسطيني المقدس، و كان يعشق البحر وحيفا، فالفلسطينيون يعشقون البحر، ومدنهم البحرية، عكا وحيفا ويافا وغزة، والفلسطينيون كالينابيع العذبة تفجّرت من الصخور في أعالي الجبال وانحدروا إلى السهل الساحلي والبحر ليزرعوا الحياة والنبت الطيب في هذة الأرض الطيبة، فهم سلالة طيبة على هذة الأرض ليس باستطاعة أحد مهما كان أن يقتلعهم من أرضهم، فهم كالشجر الطيّب أصولهم ضاربة في عمق الأرض وفروعهم عالية في السماء. محمود درويش لم يطلب الشمس، لكنه كان يريد أن يسهر في البروة مع القمر، تحت ياسمينة، ليغفوا في الغد تحت شجرة التوت في ساحة المنزل ليشتم رائحة خبز وقهوة أمة التي كانت تبكي طفولتة البعيدة، لكن الاحتلال البشع و(السلام)الأبشع لم يسمحا له بذلك، لذلك توقف قلبه الأخضر شريدا في المنافي. في عام 1982 كانت الطائرات تفتش عن صوتة في بيروت، لكنها لم تتمكن منه وقتلت على مقربة منه المذيعه اللبنانية ابنة الجنوب (نِعم) العاملة في صوت فلسطين، ثم طاردة جنود الاحتلال في شوارع بيروت بعد رحيل المقاومة عنها، ليخطفوه ويحاكموه أمام المحاكم الصهيونية، لكن بيوت بيروت فتحت له، كما فتحت لشعبه من قبلة فاللبنانيون فتحوا صدورهم قبل دورهم للفلسطينيين ولمحمود درويش. محمود درويش ماذا سأقول لأمك (مارولا) القبرصية اليونانية النازحة من بلدتها كيرينيا في الشطر الشمالي من الجزيرة الإغريقية عندما أراها، وقد سبق لي أن قلت لك عام 1985 كم كانت حزينة عندما كنت في غيبوبة في مستشفى أمراض القلب في العاصمة النمساوية، أتظن أنني سوف أستطيع مواجهتها إن كانت لاتزال على قيد الحياة؟ محمود درويش وإن هدأ صهيلك لكن صمتك مستحيل، رغم أن زمن سفر الخيول الجميلة عند الفلسطينيين قد بدأ ، في زمن هم في أعز الحاجة لتلك الخيول ، لأن شعب فلسطين رغم حظه العاثر سيبقى بمقدوره أن ينجب زعترا ومقاتلين وأولاد مكرسين للندى والمقاومة. فنم قرير العين لأن حيفا منك قد بدأت، وأنت سلّم الكرمل، وعكا جفونك، ويافا ظلّك، وأنت البراعم، والخواتم، والسلالم، وقلبك الأخضر لن يذبل لأنه يتسع لزهر اللوز والياسمين كما كان دائما يتسع للورد وللشوك، فأنت وردة السور الطويل لن تموت العصافير في الجليل يامحمود ولن تموت زيتونة آوت زكريا ولن ينساك الكرمل ولن تنساك حيفا وشعبك حي لايموت