الصين سريعة التطور والتغير والنمو إلى درجة تعجب منها لسرعة الإنجاز ودقته وتعدد ميادينه ومستوياته لا سيما في المدن الرئيسة، وبطيئة إلى درجة تثير انتباهك وتعجبك وتستدعي تساؤلاتك في سواها.. والصين مترددة الخطو في قضايا ومواقف وثابتة على رأي وموقف وقرار في مواقف أخرى، وتحسب حسابات كثيرة قبل أن تقرر أمراً أو تتخذ موقفاً، ولا تعمَد إلى المواجهة السياسية الحادة إلا فيما ندر وفي قضايا تتعلق بالوطن مثل قضية تايوان مثلاً، وذلك بعد تدقيق في النتائج يصل بها أحياناً إلى حد التردد، وإلى تعامل مع قضايا دولية تعاملاً يبدو للمتابع كأنها لا تعنيها، وهي عضو دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي، وموقفها الواضح مطلوب، لا سيما من أصدقائها والذين يعلقون آمالاً عليها . ويسأل المرء لمَ كل هذا الحذر الصيني، والعزوف حتى عن أبسط المواجهات المحدودة التي تمليها مسؤوليات دولية وخلقية، وللصين ما لها من قدرة تأثير؟ فهي على الأقل أضخم سوق استهلاكي في العالم لمن يعنيهم ترويج بضائعهم، حين يزداد الانفتاح ويرتفع الدخل، وهي أيضاً أكبر مصدر في العالم لبعض المنتجات التي تغزو الأسواق وتنافس باقتدار.. وهذا بحد ذاته عامل قوة في المواقف السياسية ولمن تهمهم التجارة والاستثمار؟! ولمَ الفرجة على المشهد السياسي على لخصوص والصين لديها مصالحها وقوتها وأصدقاؤها وحلفاؤها ومن يرتبطون بها بروابط المنافع المتبادلة وينتظرون منها ما يفوق ما يجدون منها الآن؟ ولا نتكلم عن مواقف تمليها الأيديولوجيا فذاك زمن مضى وانقضى، ولم تعد الأيديولوجيا تحكم السياسة لأنها تكلف الكثير، ولأننا في زمن المصالح والمنافع. الصين لديها مشكلاتها الداخلية الكثيرة والكبيرة التي تستحوذ على اهتمام المسؤولين وتستدعي بذل الجهد والمال والوقت باقتدار وحنكة وإبداع، وحل تلك المشكلات لا يحتاج إلى ذلك كله فقط وإنما يحتاج أيضاً إلى زمن وصبر ومال وتفهم بشري جماعي وتكوين عناصر بشرية وإقامة بنى تحتية وخدمات هائلة وتوفير مستلزمات ضخمة ومتنوعة، وكل ذلك يحتاج إلى مناخ عام ملائم، مناخ سياسي واجتماعي وثقافي لا تكون فيه تدخلات خارجية أو استفزازات واستثمارات شيطانية لتلك المشكلات في المجالات البشرية على الخصوص، حتى لا تضطر الجهات المسؤولة إلى مواجهتها بأساليب لا تريدها ولا تطيقها.. وإذا كانت قاعدة تعامل الغرب السابقة مع الصين تستند إلى "ترك التنين الصيني نائماً" فإن تلك القاعدة تصلح صينياً للاستخدام الداخلي لا سيما ي الريف الصيني الواسع: " دع التنين الشعبي نائماً".. هذا إذا كان ذلك ممكناً الآن ولو في حدود.. لأن اليقظة الشاملة ملحة ولها محركات وضرورات، ولها أيضاً مطالب كبيرة مكلفة وربما غير محتملة، لأن الإمكانيات اللازمة لها غير متوفرة. ولا بد من مواجهة الأهم فالمهم.. فلدى الصين مثل ما لدينا نحن العرب من المشكلات التي تتعلق بالأجيال القادمة، لا سيما الشباب، حيث المطلوب تأمين أربعة مطالب حيوية: العمل والمسكن وتكوين الأسرة والأمل الذي يبقي الإنسان مرتبطاً بالأرض والحياة، حريصاً على الانتماء والإبداع.. ولدى الصين مشكلة هجرة من الريف إلى المدن للبحث عن فرص، ولديها سدس سكان العالم الذين يحتاج كل منهم في كل يوم إلى خبز وأرز على الأقل ولا نتكلم عن الضرورات الأخرى. ويذكر الصينيون الذين عانوا الكثير في السابق أن أسئلتهم الصباحية عندما يلتقون لم تكن: كيف أنت أو كيف حالك، بل هل أكلت؟ وعندما يكون الجواب بالإيجاب فإنه يعني أن الشخص بخير. لم يكن السؤال هو: كيف حالك؟ بالمعنى النفسي والروحي والاجتماعي.. أي الاهتمام بالراحة العامة وأحوال النفس في تفتحها.. لم يكن ذلك هو الأمر الأهم.. لأن اللقمة المفقودة هي المنشودة.. أما اليوم فإنك تسأل الشخص عن حاله وعمله وصحته ومزاجه وتطلعاته، وتجد أن لديه ما يقوله وما يفكر به وما يتطلع إليه مما هو أكثر وأبعد من لقمة العيش. لم يعد الصيني قاتم الوجه مصرور الجسم مزموم الفم يمشي في الشارع لاهثاً وراء شيء يطلبه أو هارباً ممن يكاد يدركه.. أصبح لديه شواغل أخرى ويتمتع بحد أدنى من الأمن الأعم.. أمن من جوع وخوف، لقد ارتفع دخله إلى درجة أصبح يتمكن معها الأستاذ الجمعي من أن يقول لدي الفلوس وأستطيع أن أشتري ما أريد، وأن أذهب إلى "السوبر ماركت" بثقة، وأن أشتري سيارة أيضاً. هذا الأمر لم يكن من أحلام كثيرين من الصينيين قبل عقدين من الزمن أو أقل. وهذا يحسب للقيادة التي سارت باتجاه الاستثمار في وعي الإنسان وحريته واندفاعه الخلاق وفي طرق التنمية والانفتاح والمنافسة، ومنذ يوم أعطي الفلاح قطة أرض صغيرة ليصبح مالكاً في وطنه ازداد الدخل الفردي والإنتاج العام والتطلع نحو طموحات فردية وأسرية مشروعة، وبدأ البحث عن احتياجات الذات ابتداء من يقظة الذات لدى كثيرين. الحياة تتغير، والتغير يشمل الكثير من أوجه العيش ومن معطيات الشخصية والحضارة.. البيت الصيني التقليدي " والعمران الصيني الخاص" أصبح نادر الوجود في بكين، هناك زحف العمارات الكبيرة والنمط الغربي من البناء على الشارع الصيني.. وهناك غياب أو تغييب لنمط العمارة الصيني التقليدي.. وهو نمط جميل، ولا أعرف هل ينظر الصينيون إلى هذا على أنه بعض مظاهر الاستلاب أو بعض ملامح الغزو الثقافي، أم أنهم لا يرونه أصلاً ؟ وهل تراهم يشكون منه أم أنهم لا يتبينونه كما يتبينه الغريب؟ وهذا من بعض ما يهدد الهوية وينال من معالم والخصوصية، فالعمران المميز بتصميمه ومواده وزخارفه له دلالاته الحضارية وهو من مقومات الشخصية لأي شعب من الشعوب؟ في الصين اليوم مشكلات التنمية والتقدم التقني ودخول مجالات علمية جديدة متطورة، وهناك جدية التعامل مع تحديات العصر وطموحات مشروعة أخرى، ورغبة كبيرة في إثبات الوجود في مجالات تهم الدول المتقدمة التي تسعى الصين لكي تكون واحدة منها أو في طليعتها. وهناك أيضاً الفقر ومشكلات الشباب: " الأمل والعمل والسكن وتكوين الأسرة.. إلخ " والانتباه للداخل والارتباط العضوي به.. والتفكير بالخارج وتقليد المتقدمين، وكل ذلك يجعل الشباب الصيني يبحث عن متعة أو عن هجرة ولا يهمه تاريخه القريب ولا يعنيه أن يعرف شيئاً عن الأيديولوجيا ورموزها والعناوين السياسية الكبيرة ومدلولاتها، ولا عن الشعارات المدوية التي كانت تملأ الفضاء.. أو عن غير ذلك مما يراه خارج دائرة اهتمامه.. ويقول ببساطة.. لا يعنيني. وفي أواخر مرحلة " الإصلاح والانفتاح" التي بدأتها الصين مذ ثلاثين سنة قريباً هناك الآن من يفتح فمه ويتكلم، من يعترض ويعارض.. وقد سمعت من صينيين ما لم أكن أتوقع أن أسمعه في الصين، مثل قول شخص: "هذا الرجل ماو لماذا يرفعون صورته وقد كان سبب تخلف الصين؟".. فمن كان يتوقع أن يسمع مثل هذا الكلام من صيني؟ وهذا الكلام يحمل دلالات كثيرة منها أبعاد الانفتاح والتقدم والجرأة والشبع والنمو الداخلي للشخصية الفردية والشعور بنوع من المسؤولية التي ترتب حرية مسؤولة ونقداً. في الصين مؤمنون وملحدون.. وفيها أقليات قومية عدة، وأقاليم مترامية الأطراف، وأكثر من مليار وثلاثمئة مليون صيني يحتاجون إلى طعام ولباس ومدارس وسكن وعلاج وخدمات من أنواع شتى.. والصين ليست فقط المدن الكبيرة بيجينغ، وشنغهاي، ونانجين، ووهان، وخوانجو، وشي آن.. الصين هي الريف الكبير والأحشاء التي تطلب الطعام والأفواج المهاجرة من الريف إلى المدن بحثاً عن الفرص، وهي زحف العمران على المزارع والخضرة المحيطة بالمدن، والتلوث الذي يطال مياهاً وأجواء وأماكن لا يراها الزائر العابر ببساطة، والصين تطلع الشباب إلى ما يتطلع إليه أو يعيشه شباب العالم الغربي على الخصوص. الوجوه مرتاحة أكثر من السابق في الصين اليوم، والناس يشكلون قوس قزح من الألوان والأزياء والتشكيلات الجماعية.. لم يعد اللباس موحداً، ولا الكلام محصوراً بشخص قيادي في المجموع الذي يصغر أو يكبر.. والشارع أصبح يغص بالسيارات من كل الأنواع، والدراجات الهوائية والنارية تكاد تختفي من الشوارع بعد أن كانت سيلاً فيه، لأنها وسيلة المواصلات الفردية الأولى. الصين اليوم حالة من الانفتاح المتواصل والمتنامي، إنها تكسب اقتصادياً وتحقق تنمية ملحوظة، وتراكم رصيداً من احتياطي العملة الصعبة تجاوز ألفي مليار دولار في عام 2008، واليوان ارتفع أمام الدولار ليس بسبب الأزمة الاقتصادية فقط، والدولار يساوي اليوم 6،7 يوان بعد أن كان قبل سنوات قليلة بين 9 و8 يوان. الصين اليوم تتقدم في مناطق ومجالات والصين ذاتها اليوم لا ترى التقدم في مناطق ومساحات لا يستهان بها أيضاً، وفي أحشاء الصين ما يثير الدهشة والخوف.. لأن الشعوب هي معدتها وصبرها أيضاً.. وهناك من لم تصلهم الخدمات الأولية وهم يكدحون ليعيشوا.. ويسمعون التقدم يطرق بيوتهم وآذانهم.. والرغبة الإغرائية أخاذة، الجوع كافر كما نقول نحن العرب الذين نشكو من أمراض ذات أعراض ظاهرة وأخرى مستترة في الأحشاء لا يعلمها لا لله سبحانه. وفي البيت الصيني اليوم قطط سمان، وشكوى من تلك القطط.. ودعوة تقول يجب أن نتخلص من الفئران في المنزل الكبير. هناك قضايا تلح على المثقفين والثقافة مثل الهوية، الغزو الثقافي، الحداثة والتحديث، الموقف من التراث والأصالة والتأصيل، وهناك قضايا أخرى تلح على الساسة والسياسة وهي كثيرة وكبيرة ومنها مشكلات البر الصيني واستعادة تايوان والوقوف بوجه التدخل الخارجي والتقدم نحو الصف الأول.. أما المجتمع فيسبح في خضم العيش ويلاطم الأمواج بأذرع تفوق بملايين المرات أذرع التنين العملاق.. إن نهر الحياة يتدفق وهو أكبر من كل القواعد والأنظمة والقوانين والقوى، ولا يمكن التحكم به كلياً أو وضعه في زجاجة كما لا يمكن أن يوضع النهر الأصفر " يانغ تسي" في زجاجة أو يكون مجراه فتحتها. وحين نقارب كل ذلك من عدة زوايا يصبح المشهد الصيني مفهوماً بصورة أفضل، فالداخل الصيني أو ما في حكمه يستقطب اهتمام السياسي ويأخذ حيزاً في حساباته، ولا يريد تشويشاً له ولا استثماراً شيطانياً خارجياً في مشكلاته، ويرى كثيرون من الساسة الصينيين أن معظم الجهد والاهتمام ينبغي أن يوجّه إلى الداخل وأن تأخذ الحسابات السياسية الخارجية ذلك بعين الاعتبار.. وهذا مفهوم إلى حد كبير ولكن حل مشكلات الداخل مرتبط على نحو ما بالانفتاح على الخارج والمصالح الصينية كثيرة وفي تطور أيضاً.. وهي لا تتوقف عند حدود فتح أسواق للبضائع وتحقيق منافسة مقتدرة، بل تتعدى ذلك إلى تأمين الطاقة التي يحتاج إليها برنامج التنمية الطموح، وهي حاجة متزايدة بصورة ملحوظة ومقترنة بسرعة وتيرة النمو، ولا تريد الصين أن تكون عنقها بيد قوة خارجية تهيمن على موارد الطاقة الخارجية في هذا المجال على الخصوص.. أي النفط والغاز على سبيل المثال والتجربة الصينية في مجال التنمية مما ينبغي أن ندرسه ونستفيد منه ونحن نلحظ بعض المواقف الصينية الرامية إلى تثبيت موطئ قدم في مواقع خارجية ودولية، ولو على استحياء، وهي تنطوي على مواجهة في هذا الميدان مثل مواقفها في السودان حيث تستثمر في النفط هناك، ومواقفها في مواقع إفريقية أخرى، الأمر الذي يجعل قراءتنا أوضح لمشاركتها في القوة البحرية لمواجهة القرصنة في مياه دولية إفريقية قبالة سواحل الصومال وفي القرن الإفريقي مثلاً. وكذلك موقفها في الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الصيني هو جينتاو إلى جنوب إفريقية، حيث جرت استشارات داخلية حساسة حول توقفه لمدة يوم واحد في السودان الذي تربطه بالصين علاقة متينة.. وقد كان الأميركيون لا يريدون أن يقوم الرئيس الصيني بزيارة الخرطوم وطلبوا ذلك بطرقهم، والصينيون يريدون مراعاة الأميركيين ولا يريدون الإضرار بمصالحهم ولا خذلان أصدقائهم.. وبعد استشارات وحسابات تم إدراج زيارة الخرطوم ليوم واحد في برنامج الرئيس الصيني على الرغم مما يثار حول الرئيس البشير والمحكمة الدولية ودار فور. إن التأمل في المواقف والتجارب والأوضاع الصينية مفيد وضروري لا سيما والعلاقات العربية الصينية تدخل في مرحلة جديدة على الصعيد الثنائي بين الأقطار العربية والصين من جهة، ومن خلال منتدى التعاون العربي الصيني من جهة أخرى، وتحتاج تلك العلاقات إلى متابعة ودراسة وتمتين وتحصين، وربما أيضاً إلى وقفة تأمل تشبه وقفات لاو تسي على شواطئ نهر الحياة المتدفق بغزارة، ففي الصين تنمية وتحديات ومشكلات وفيها ما يستحق الاطلاع عليه والتعرف إليه والاستفادة منه.