يقول علماء اللسانيات، أن الكلمة المفردة خارج سياقها، لا تحمل رسالة دلالية تامة، وإنما تشحن الكلمة بالمعاني والمدلولات، إذا وقعت في سياق تركيبي عن يمينها وعن شمالها، ومعنى هذا أنني لو كتبت لكم اليوم كلمة "الجزائر"، وتركت باقي مساحة هذا المقال بيضاء، لحكمتم عليَّ بالخبل والغباء، وربما سبح كثير منكم بخياله، أنني أقصد كذا وكذا، من وضع هذه الكلمة المفردة. تماما كما يحدث مع بعض أشباه النقاد، وهم يجتهدون في فهم ما يعرف بالشعر المرسل، إنهم يقفون أمام كلام غير مفهوم، رصفت كلماته تعسفا، ثم يأتي من يحدثنا عن روح التجديد، والخيال التجريدي، والهيام الصوفي، إلى آخر ما تعرفون من تلك العبارات الطنانة، ولو يصدقك صاحب ذلك العبث، لقال إنما كنت أخوض وألعب، ولا دراية لي بالشعر ولا بالأحاسيس.. شيء من هذا يحدث في عالم الصحافة، فتجد أنه يجتهد في تنميق خطاب صاحب الفخامة والجلالة، ويضفي عليه من المعاني والمدلولات، ما لم يخطر على بال كاتب الخطاب ولا المسؤول، لكن صاحبنا أؤتي موهبة النفاذ إلى ما لم يخطر على بال بشر، ولنفترض أن صاحب الفخامة تواضع، وقرأ ذلك التعليق، فالمؤكد أنه سيضحك ملء شدقيه، ويعجب من هذا الذي يحرف الكلم عن مواضعه. ليس في نيتي أن أكتب عن التراكيب اللغوية، ولا عن هؤلاء الذين يجهدون أعصابهم، وينسلخون من ذواتهم، لأنني موقن أنهم يأخذون حظهم من العذاب النفسي، واحتقار أنفسهم أمام أنفسهم، وكفى به عذابا موجعا، أن يحتقر الإنسان نفسه، لأنه حينئذ لا تريحه ملذات الدنيا كلها، سيلازمه الاضطراب وتقضمه الحسرة، وإن بدا سعيدا مرفها. لقد شرعت في الكتابة، وفي نيتي أن أكتب عن هذا اليوم من تاريخ الجزائر، يوم الانتخابات الرئاسية، ثم بدا لي أنه لا يمكن فصل قطعة من الزمن عن سياقها، فاليوم هو تتمة الأمس، وهو ما يمهد لغد، فهل ترون أنه يمكن إفراد هذا اليوم بالحديث، دون الالتفات لما سبقه من زمن، واستشراف ما قد يكون بعده، فاليوم سيمضي كما مضى الأمس قبله، لكن المهم هو ما نحن فيه صانعون؟ وصنيعنا اليوم لابد أن يحتكم إلى محور الزمن، لنقف اليوم ونسأل أنفسنا عن الأمس قبله، لا أقصد بالأمس يوما واحدا، وإنما أن نسبح بذاكرتنا إلى أشهر وسنوات خلت، أيام كان يوم الانتخاب في ذاته مدعاة للخوف، ومصدرا للقلق، أتذكرون يوم كانت طوابير السيارات، تقف أمام محطات الوقود، أياما قبل يوم الانتخاب، لأن الناس يشعرون أن ذلك اليوم بعده المجهول؟ أتذكرون ذلك الحذر البادي على الوجوه، والقلق يحاصر الأنفس، تلك أيام عصيبة قد ولت. صحيح أن طلب القناعة تضليل، ومن حقنا أن نتشوف إلى المزيد، ومن حقنا أن نطالب بالركض، بدل الهرولة أو المشي، لأن ما ضاع منا يتطلب الكثير من الجهد، لكنه من التضليل أيضا، أن لا نتأمل ما كان من سابق حالنا، ثم لنحتكم إلى ضمائرنا، فيما نحن مقبلون عليه اليوم، وننظر من خلاله إلى المستقبل، فهل يمكن أن نتطلع إلى المستقبل بسلبية، كما يروج لذلك دعاة اللامبالاة، ويكيفون موقفهم بشعار المقاطعة؟ إن هذا اليوم سيمضي، ويكتب التاريخ فيه حركتنا، وممكن التعبير فيه عن قناعاتنا، بالحركة لا بالسكون، فأمام صندوق الانتخاب، توجد أكثر من وسيلة للتعبير عن المواقف، فالموقف في النهاية حركة، والحركة هنا هي ورقة انتخاب، ولتكن هذه الورقة بأي لون، لكنها ستسجل حركة فاعلة، أرضي عليها هذا أم غضب عنها ذاك، فذلك شأن كل واحد منا، وموقف لا يمكن أن يصادره أحد. عندها يمكن أن يحدث التراكم المطلوب، لأن التعاطي السلبي يخدم أطراف الابتزاز، ويحجب بالتالي فرص التغيير، لأن الحجة الجاهزة أن الشعب بعيد عن الفعل السياسي، أو كتلة عددية غير مهتمة بالشأن العام، وهذا في تقديري، تعطيل للتراكم المنشود، وحركة اليوم نحو فعل انتخابي، سيحدد بصورة ما، ملامح المستقبل القادم.