الجزائر، هي اليوم من الدول القليلة في العالم التي لم تفتح بعد مجال السمعي بصري أمام القطاع الخاص. المختصون في هذا المجال لا يستطيعون إدراك ولا فهم التبريرات المقدمة لمواصلة غلق هذا القطاع أمام التعددية الإعلامية. الوضع كان مقبولا في مرحلة ما قبل التسعينيات حيث لم تكن التكنولوجيا تطورت بالشكل الذي نعرفه اليوم وحيث لم يكن أمام المواطن سوى القبول والاقتناع بما تقدمه القناة الوطنية. اليوم، الوضع جد مختلف فالسماء تمطر كل دول العالم بالآلاف من القنوات، ولا توجد أية وسيلة يمكن استعمالها لمنع المواطنين من التفرج على القنوات الأجنبية. في غياب دراسات جدية للجمهور على المستوى الوطني، تقول التكهنات والملاحظة المباشرة بأن الغالبية العظمى من الجزائريين يستقبلون في بيوتهم البث الأجنبي، والسؤال لم يعد يطرح اليوم عن نسبة الجزائريين الذين يشاهدون هذا البث الوارد بل عن عدد الجزائريين الذين لا زالوا يتفرجون على القناة الوطنية التي يطلقون عليها أسم "اليتيمة" ليس من الضروري التأكيد هنا على أهمية السمعي بصري في نشر الأفكار الجديدة والترويج لها، فهذه أمور أصبحت معروفة لدى العام والخاص. لكن الوضع في الجزائر، يتطلب في رأينا ضرورة الإسراع بمعالجة الوضعية لأنه قد يأتي يوم لا تجد فيه الهيئات العمومية من وسيلة للتوجه إلى الرأي العام الجزائري سوى عبر قنوات أجنبية. بعض الدراسات تضع المشاهد الجزائري في المراتب الأولى في العالم من حيث الإقبال على مشاهدة القنوات الأجنبية (في مصر حيث توجد العديد من القنوات التابعة للقطاع الخاص، تشير الدراسات إلى أن نسبة المواطنين المصريين الذين يستقبلون البث الأجنبي لا تتجاوز 40 بالمائة)؛ فبعد القنوات الفرنسية التي استحوذت على نسبة معتبرة من الجزائريين في منتصف الثمانينات، جاءت القنوات العربية بمختلف محتوياتها (أكثر من 500 قناة حاليا) لتستقطب معظم الجزائريين، ولأنه لا مجال للحياد في السمعي بصري فأن هذه القنوات تساهم بشكل كبير في حقن المواطنين الجزائريين بأفكار وتصورات وآراء لا تخدم بالضرورة الوحدة الوطنية ولا العصرنة التي من المفروض أن نسعى إليها ولا حتى الأخلاق العامة. في كل مناسبة جزائرية (خاصة عند وقوع عمليات إرهابية أو خلال الانتخابات) تتحول الكثير من هذه القنوات إلى منابر يتحدث منها الجزائريون الموالون والمعارضون للسلطة. هناك من القنوات العربية من انتشرت وكبرت على حساب الجزائر وهمومها ومشاكلها، فمن خلال توافد الجزائريين على بلاتوهاتها تمكنت بعضها من أن تجد لنفسها مكانة وسط المنافسة الشديدة في سماء البث العربي. لكن ما يطرح كسؤال هو: لماذا تستمر السلطة في الجزائر في غلق مجال السمعي بصري؟ لا وجود لجواب مقنع، وكل ما في الأمر أن هناك من يرى بأن فتح السمعي بصري لن يكون سوى في فائدة جهات متطرفة أو انفصالية أو ذات توجهات وانتماءات معاكسة لما تريده الجزائر. لكن في زمن تكنولوجيات الاتصال بما فيها الانترنيت، فانه بمقدور هذه الفئات التعبير عن نفسها والتواصل مع الرأي العام الجزائري خارج الأطر القانونية، إضافة إلى أن الذين يدعون إلى ضرورة فتح السمعي بصري يقولون في نفس الوقت أنه يجب الاحتياط من التجاوزات بوضع قانون يفرض العديد من الشروط على من يريد "الاستثمار" في السمعي بصري. هؤلاء يعتبرون النموذج الأمريكي مثلا يمكن الاستفادة منه، حيث أن هذا البلد المعروف باعتباره حامي الديمقراطية ونموذجها في العالم، وضع قانونا صارما للسمعي بصري. القانون الأمريكي يفرض العديد من الشروط على كل من يريد فتح قناة تلفزيونية أو إذاعية، من بينها أن يكون للشخص علاقة ما بالمجال وأن يبرر مصدر أمواله وأن يقدم دفتر أعباء، هذا إضافة إلى وجود هيئة تشرف على السمعي بصري وهي التي تمنح رخصة البث وتراقب محتويات القنوات وتعاقبها عندما تخرج عن الإطار القانوني، وقد تصل العقوبة حد سحب رخصة البث. إن الجزائر تعيش مرحلة ما بعد الإرهاب وهي المرحلة التي تتطلب تجند كل القوى الحية للأمة في إطار إستراتيجية واضحة المعالم لاجتثاث التطرف من عقول الناس خاصة وأن الظاهرة الإرهابية تعالج وفق مستويين: المستوى الأمني من خلال الاستعلام عن مواقع الإرهابيين وتحركاتهم وطرق تسليحهم وشبكاتهم وعلاقاتهم.. إنها باختصار المعالجة الأمنية، وهي قائمة ومستمرة؛ أما المستوى الثاني فهو الأعمق والأطول فترة ويتطلب الكثير من الجهد الفكري والدراسة والبحث. الأمر هنا يتعلق بالانتقال بالمجتمع إلى ما بعد الأزمة. ففي إطار الإستراتيجية الوطنية يعمل الإعلاميون والسياسيون والمثقفون على نشر الوعي بين أفراد الشعب بتكوين المواطن وإعلامه، وهنا يأتي دور التلفزيون الذي يساهم اليوم، عبر العالم، في خلق الرأي العام والتأثير حتى في قرارات المسئولين على المستوى العالمي. التلفزيون الوطني (العمومي والخاص) لابد أن توضع له إستراتيجية، وان تحدد أهدافه في إطار المجهود العام الرامي إلى اجتثاث الفكر المتطرف وتقريب وجهات نظر المواطنين حول القضايا الوطنية والدولية ونبذ كل أنواع الإقصاء ونشر ثقافة التسامح والتعريف بالكفاءات الوطنية في مختلف المجالات..الخ، ولكي يقوم التلفزيون بهذا الدور لابد أن تكون له هيأة من العقلاء والمختصين تتابع محتوى ما يبثه وتتعامل مع مراكز بحث تهتم بشأن التلفزيون وتدرس تأثيرات برامجه ومدى إقبال المواطنين عليها. إن وجود قناة عمومية واحدة لا يساعد أبدا في القيام بهذا الدور، ومهما كانت إرادة وكفاءة المشرفين على القناة العمومية فلن يوفقوا في استعادة الرأي العام الجزائري الذي هاجر نحو قنوات أجنبية لذلك يصيح فتح قطاع السمعي بصري أمام القطاع الوطني الخاص أكثر من ضرورة.