كثير من الناس يعطونك الانطباع بأن ما تدعو إليه أو تنتقده هو مجرّد صيحة في واد، وأنك إن تنهى عن منكرات سياسية أو إدارية أو اجتماعية فلأنك "ماوصلتش للعنب وعلى هذا تقول قارص"..! المشكلة أن هذا الكلام يتردّد حتى في أوساط مسؤولين في مستويات متعددة ولدى فئات يفترض أنها تحوز السلطة النقدية والأخلاقية للدفاع عن القيم وحراسة المعنى.. أحدهم قال لي يوما: "أنت لو كنت مكانهم لفعلت أكثر منهم.." لا أنكر أن الاستفزاز يكاد يصير قاعدة عمل اجتماعية في هذا البلد، وأن تعويم الفساد والمنكر يكاد يصبح سياسة أمر واقع لا محالة.. أينما ولّيت وجهك "يوجعك قلبك" وتشعر أن لا جدوى مما تقول أو تفعل، وعندما تُغيّب الجدوى يضيع معنى الوجود وسرّ الحياة.. أذكر مرّة أني مررت بالقرب من سوق "كلوزال" في الدشرة المسمّاة مجازا العاصمة، وسمعتُ إحدى العجائز الحاذقات تقول لفتاة تتحدّى الدنيا بمفاتن جسدها وتختال بسرّتها وأردافها: "بوه عليك..واش خليتي لراجلك يشوف.."! خلتُ أن هذه المسنّة محقّة تماما فيما تقول، فليس أدعى للميوعة من الانسياق وراء التيار..وفي النهاية تتشوّه وتفقد القدرة على التميّز والتمييز أيضا، وتضيع في زحمة ما هو سائد بغض النظر إذا كان صحيحا أو خاطئا.. لنعترف بأن صوت النهي عن المنكر خفت كثيرا كثيرا، وأن صوت المنتقدين بحّ، وأنهم أضحوا قلة بلا جهد ولا تأثير.. أن تستنكر ماهو خاطئ ويعلو صوتك بالحق ضد التجاوزات والفساد ليس أمرا ميسورا، فقد ضاقت السبل بأهلها وضاق الأمر، وما عُدت تسمع إلاّ "الناس كامل كيف كيف..واش حسبت روحك.." وحتى حديث النبيّ محمد بترنا نصفه، فنكتفي ب "كل ابن آدم خطّاء"، ولا أحد يتكلّم عن " وخير الخطّائين التوّابون.."؟! هكذا نحن بين بين، فإذا انتقدت غيرك "علاه تكسّر راسك"، وإذا امتدت يدك لتغيير ما اعوج وانحرف "واش حاسب روحك".. والنتيجة طبعا خراب الروح..! "نعيبُ الزمان والعيبُ فينا وما للزمان من عيب سوانا".