فكان بارزاً للعيان الصوت الشعري الجديد الذي مثله شباب في مقتبل الحلم.. شباب ولد أكبرهم بعد اتفاقية كامبد دايفيد أو على أكثر تقدير بعد حرب أكتوبر 1973.. شباب لا يعرف القدس ولم تطأ أقدامه شوارعها.. يكتب عنها بملامح المتخيل فقط.. فهل تعيش القدس في الضمير الشعري الشاب فعلاً، أم أنها كما الشعارات المخبئة في جوف التواريخ ولا تفتح إلا عند ضرورتها الخطابية؟؟ هذا الصوت الشعري الجديد، يكتب بذات الهمّة القومية.. أم أنها رفعت أوتاد خيمة الأيديولوجية وما عاد بالقصيد سجل أنا عربي.. بعد سقوط الإيدولوجيا.. الشاعر سيكتب القضية بصفاء أكبر غلب على الشعر في فترات سابقة صفة الايدولوجيا والشعارات الكبيرة الفضفاضة.. فكان الشاعر أداة في يد الايديوجيا يرصف نظمه على إنجازات السياسي، يتغني بها ويشحن الهمم لكي تبقى على عهد الثورة والتطلع الحزبي.. فكانت المواضيع الجماعية - والقدس من ظمنها - تلوح كل يوم وتسكن أفق الشعر.. فهل كان الشاعر وقتها يكتم على أنفاس تفاصيله الصغيرة من أجل مشروع جماعي أثبت فشله في النهاية؟؟ على هذا الوقع يتحدث الشاعر على الجلاوي من البحرين فيؤكد: "...كل التيارات التي أتت سواء السماوية أو الوضعية صنعت من الشاعر بوق للشعارات الكبيرة، وربما يحسب ذلك ولاءً ما ولكنه أيضا ينتمي إلى حساسية الشاعر، فالشاعر بطبيعته حساس ولديه قرون استشعار عالية لاسيما إزاء القضايا العربية التي تمسه بصورة مباشرة فينفعل أمامها وتبرز ردّة فعله الشعرية، لذلك إذا أتى الشعر بطريقة فردية وليست جماعية أو في الغالب - إذا صح التعبير- يأتي الشعر أكثر صدقا من كونه أداه للتعبئة وأداة لشحن الهمم.. من جانب أخر جميل أن يكون الشعر شاحن للهمم وحامل لرسالات كبرى ويافطات عريضة، لكن ليس من مهمة الشاعر أن يكون وزيراً للإعلام، كما كان في عهد الجاهلية أو المتحدث الرسمي باسم القبيلة.. هويتكلم عن حالته وانفعاله اتجاه هذه القضايا، ولذلك نجد أن تداول موضوع القدس مختلف بعضهم يأخذ القدس قضية مصيرية والأخر يغازلها كما امرأة والبعض هي بالنسبة إليه وطنه المادي، من هنا يأتي الاختلاف في حديقة الشعر وتتنوع الأزهار فلا تكون بلون واحد ولا برائحة واحدة وهنا أيضا جمالية أن تدخل حقول الشعراء.. أتوقع إذا كانت هناك فردية، والشعر هو عملية فردانية أن يحمل صيغة إيجابية في دفع شعر القضية أكثر من كونه يتحدث عن الكل المعتم.." الحماسية من أجل المهرجانات.. الشارع لا يصدقها إذن تراجع المشروع الجماعي الذي انصهرت فيه الذات الشاعرة، وتوارت الخطابية الطامحة إلى غد أفضل، وبعد انتظار طويل جداً سحّب معه الأمل، عاد الشاعر إلى حالته الأولى.. وهذا نجده جلياً في شعر درويش فبعد أن تقمصت ذاته الشاعرة المشروع النضالي التحرري وراهنت الأنا عليه عاد ورسم لنا انطلاقة أخرى للرحلة الإبداعية توسطها أثر الفراشة ومنازلة الموت والأسئلة الوجودية الكبرى.. هذا الخذلان جعل المبدع يبحث عن تعبئة جمالية أخرى يرضي بها وجوده فكان التأمل والعبث اللفظي المتداخل والمتقاطع مع صيحات اليأس التي ما لبثت أن استقرت على جمالها تبحث في دواخله عن الإنسان وعن تفاصيل الحب الصغيرة.. ولكن على الرغم من هذا قرأ بعض الشباب في العكاظية قصائد حماسية شديدة الإيقاع.. الشاعرة سوسن دهنيم تحاول أن تفسر لنا ذلك: "..هناك رواسب باقية بطبيعة الحال بسبب اهتمام الشاعر بما كتب قبله، في البحرين مثلا كان وجود الايدولوجيا طاغياً في شعر السبعينات، وهو حال كل الأقطار العربية وإلى غاية الآن هناك بعض الشعراء لا يزال يكتب كما كان يكتب المناضل السبعيني بلهجته الخطابية بل وبذات الأسلوب فقط من أجل المهرجانات.. من أجل الأمسيات من أجل الدعوات.. والحقيقة هذا ما جعل الشعر يتراجع لأنه ظل يمسك فيما ضيعّه السياسي فأصبح لا يصدقه المتلقي.. على الرغم من أن تراجع الإيديولوجيات خدمت الشاعر فالمشهد صار أوسع وللشاعر مطلق الحرية في كتابة كل ما يريد..." سبب تأخرنا الإبداعي هو الكتابة الخطابية الجماعية غير أن الكاتب والشاعر الجزائري، شكري شرف الدين، يرى أن الايدولوجيا مصير بشري أكثر منها خيار مرحلي معين.. وأننا نعيش إيديولوجية جديدة في العالم العربي.. فيا ترى ما هي هذه الإيديولوجية: "..هناك إيديولوجية جديدة يعيشها العالم العربي، مفادها تلك الإلزامية العالمية التي تضبط العالم ببعض الاستعدادات النفسية والثقافية فأصبحنا ننظر للعالم برؤية مختلفة عكس النظرة الترتيبية السابقة من عالم أول وثاني وثالث.. هي إيديولوجية عالمية تقول بانهيار المركز وبضرورة إسماع صوت الهامش، يبقى علينا الآن لنا أن نحدد نسبة الإنتاج الثقافي للهامش مقارنة مع المركز وللأسف في العالم العربي لا تزال سيطرة الإنتاج الثقافي مركزية ولا يسمع فيها صوت الهامش، هذا مع التأكيد أن فشلنا الثقافي مرده الأساسي في إهمال الفردية، لأنه لا يمكن للثقافة أن تتأسس بوجهها الحضاري المتين ومتقدم وحداثي وما بعد حداثي إلا إذا اعترفت بالفردانية وأهملت الأسبقيات النفسية، التي قال عنها محمد عابد الجابري إنها مرتبطة بالذهنية العربية منذ الأزل وتتمثل في محور القبلية والفكر الغنيمي أي أن الفعل مزال فعلا قبليا يسعى إلى إرضاء الذائقة القبلية والغنيمة هي المقابل الذي ينتظره المبدع كتعاطف المبدع معه أو حتى مساندة المركز له..". إيديولوجية الشاعر حلمه من جانب آخر ليس ينفي الشاعر والقاص المغربي، إسماعيل غزالي، أن الشعار الذي خصت به الطبعة الثالثة للعكاظية هو احتفالية عابرة ليست تضيف للقضية شيئا، غير أنه يؤكد أن الإفلات الحقيقي للشعر هو سقوطه على ذاته وهويته الخاصة: "... أعتقد أن الشعر هو أفق وانفلات ليس يتفق مع الإيديولوجية في شيء، وأن الأفكار التي اعتقد البعض أنها إيديولوجية في الحقيقية هي لا تصلح أن تكون إيديولوجية لأنها تشبه الحلم في عجينتها.. وطبعا هذه العجينة عندما لوثت بالكثير من المادية أصبحت هناك إيديولوجية في ركنها المادي والفلسفي ولذا لا رهان عند الشاعر إلا على الحلم.. وإن كانت الطبعة للعكاظية لامست قضية القدس تلك القضية الغائرة في كل وجدان كل العربي فهي عبارة عن إضافة رمزية لا غير وهي بالتالي مجرد احتفالية عابرة لا أقل ولا أكثر.. ولماذا نحن نركض وراء الإيديولوجيات هل لأننا نريد الاستقرار التجربة الحقيقية للإبداع هي في عدم استقرارها.. السر الأعظم هو عدم الاستقرار.. " لابد من تبني إيديولوجية ما.. لأن الفن هو موقف شخصي إسماعيل غزالي يرى أن الأفكار اليسارية كانت شبيهة بالحلم لذا لم تعكس نجاحاتها على الواقع ولكنه لا يقول ذلك بصريح العبارة.. ربما هو كذلك الشعراء يجيدون المراوغة بشكل كبير.. ولو أن السؤال الحميمي الأول الذي وجهناه لكل هؤلاء الشعراء هو هل كتبت نصاً شعريا للقدس.. والحقيقة أن الجميع أجاب بنعم.. وأكثر هناك من ربطه بدرس الإنشاء القديم في المدارس الابتدائية الأولى.. يعني من بين الالزاميات اللاواعية للشاعر.. مما يدل أن وعي الصوت الشعري الجديد لا يحمل فكرة قومية متينة الأساس، غير أن الشاعر السوري عبد الوهاب عزاوي يصر على أن الحياد أمر مرفوض جدا في الأدب.. ولابد من وجود إيديولوجية معينة بمعناها المنفتح لا المنغلق لدى المبدع يستطيع من خلالها تفسير العالم، لأن الفن نفسه هو موقف شخصي ومن ثمة رؤية تفسيرية تمكنه من الحراك الداخلي من حيث أن الداخل ما يتم قبوله من الخارج.. غير انه يرفض العمل الحزبي الذي يجمع حوله طبقة معينة لها مصالحها الخاصة ويرى الخلاص في العمل الثقافي فيقول: ".. في وقتنا الحالي ليس من السهل أن يولد شاعر كبيراً.. لأن الشعراء الكبار ولدوا في زمن مضى تحت دعم وتأثير مؤسسات حزبية، والسيئ في الأمر أن الخطاب في تلك المرحلة كان مقولباً أو محدد الملامح والجمهور أيضا كان يملك ذائقة جمالية مقولبة في المقابل.. على سبيل المثال تحضر في كتابات القوميين السوريين رموزاً متكررة مثل العنقاء، تموز، الانبعاث، هذه الرموز التقليدية لها ما يقابلها في المقابل على مستوى الجمهور، ولكل شاعر جمهوره.. غير أن الخيبات متكررة والتراجع شديد في الحراك السياسي والاجتماعي وحالة من القمع المعممة في الدول العربية أدى إلى انحسار الثقافة بالخط العريض من المجتمع، باعتبارها طاقة حيوية تعكس هذا الحراك وأسئلته الحارة وانتقلت إلى النخبة.. وبعد ذلك حدث ما أسميه شخصيا الاصطفاء الشعري، بمعنى هناك تيارات تراجعت وهناك تيارات لم تعد تستطيع أن تلبي حاجة ما كانت محددة.. مثلا نزار قباني العامل الأساسي في شهرته هو خروجه عن الطابو الجنسي.. والآن هناك كثّر الذين يخرجون عن هذا الطابو ولم يعد يشكل إغراءً لدى المتلقي، وغيره كثيرين.. أدونيس بقي محجوزاً لدى النخبة العارفة.. وغنائية درويش سقطت من أسئلتها الحارة ومديح الظل العالي إلى لماذا تركت الحصان غريباً.. وغير ذلك من أثر الأسئلة الوجودية ببنيتها التأملية التي تخلد مع التاريخ.. في هذا السياق هناك فقدان ثقة بالآباء الشعريين وحالة من التوهان الشعري وهي منطقية من وضع العام السائد لذا الملامح الأساسية للكتابة الشعرية الشابة هي الحالة الفردية، العزلة، الألم، القلق والقطيعة مع الموروث الشعري القديم.. هذا بالإضافة إلى المجانية الفظيعة في الشعر العربي والاستسهال في الكتابة مع تكريس لأنماط سيئة غير أنني في النهاية أقول أن هناك أشخاص يبقون كقيمة رمزية للأجيال القادمة.." في النهاية بريخت يقول "..لا يقول أبناؤنا ما الذي جرى ولكن يقولون لماذا صمت الشعراء"..