كانت ليلتي الأولى بالقاعة رقم 2 بجناح النساء بسجن الحراش هادئة بكل معاني الكلمة، رغم حرارة الفضول لمعرفة المزيد من حياة قاطنات الجناح وقصصهن المثيرة• وقبل خلودي إلى النوم، طلبني مدير السجن ليرحّب بي على الطريقة اللائقة بالمكان، ووجدته وقد بدا على وجهه التأثر وهو يسألني ما السبب الذي أتى بي إلى هذا المكان، فقلت: ''أمر بالتوقيف'' والسبب صك بدون رصيد منذ ثلاث سنوات، وماهي إلا ليلة وتمر، فقال مبتسما "كان بودي أن أتمنى لك إقامة طيبة بيننا"!! وتحدثنا عن المؤسسة العقابية، وكلام من هنا وآخر من هناك، وعن السجينات اللواتي ينمن على الأرض وعددهن ست في القاعة التي حللت بها، واستفسرته عن مشكلة الحمام والماء الساخن الذي تفتقده السجينات منذ شهور، فقال إنه لم يكن يعلم بأن الأسرّة غير كافية وبمشكلة الاكتظاظ بالقاعات، ثم أضاف ''هذه هي سجون بلادك''، وأنه عمل كل ما في وسعه لتحسين الظروف، رغم قلة الإمكانيات• وبالفعل، فحسب السجينات اللواتي أمضين فترة طويلة بهذا الجناح، فإن ظروف السجن تحسنت كثيرا مقارنة بالسنوات السابقة، سواء من حيث الأكل أو من حيث النظافة والتغطية الصحية للسجينات، وأيضا الدراسة، فالكثير من السجينات تعلمن القراءة والكتابة من خلال دروس محو الأمية، وهن الآن يطالعن الكتب الدينية وكتب الأدعية ويكتبن الرسائل لأبنائهن، حتى أن سجينة تقبع بالجناح منذ 10 سنوات، صارت تعطي دروسا في الوعظ والإرشاد للسجينات، وتراسل أبناءها وتوجههم في حياتهم من خلال رسائل مؤثرة، وتحاول قدر الإمكان مساعدتهم، رغم المسافة وعقوبتها القاسية•• السجن المؤبد• وقبل أن أغادر مكتبه، سألني مدير السجن إن كنت أرغب في تغيير القاعة، أو أية خدمة أخرى يسديها لي، قال إنه يريد أن يرفع من معنوياتي، لكن - قال - ''ما شاء الله معنوياتك في القمة'' وشكرته ورفضت التغيير لأنها فرصة لمعرفة المزيد عن المكان، وأضفت ممازحة ''لو أنني طلبت منكم الموافقة على دخولي من أجل إجراء تحقيق لرفضتم، فلا بأس، فأنا هنا وهي فرصة لإجراء تحقيقات''• أجواء القاعة رقم 2 أغلبية السجينات بهذه القاعة هن من المراهقات والشابات، يقضين عقوبات قصيرة بسبب تهم السرقة أو الدعارة باستثناء حالتي إجرام، وإن كانت القاعة تسع ل 24 سريرا فقط، فهي تضم في أغلب الأحيان أكثر من 30 سجينة، وتضطر السجينات أحيانا للنوم أمام المرحاض• المكان نظيف ويتم تنظيفه مرتين في اليوم بالمطهرات، إلا أن الجدران والأرضية الرمادية هي التي تزيد من قرف المكان، وتضفي على أجوائه جوا من القلق والقنوط والحزن•• في هذه القاعة تعرفت على سجينة كانت ''بطلة'' الصحافة الوطنية في الأسابيع القليلة الماضية، وهي المتهمة في قضية البنك الوطني الجزائري مع عاشور، وجيء بها من المغرب ضمن المجموعة التي سلمتها السلطات المغربية إلى الجزائر في نوفمبر الماضي، ولهذا السبب لقبتها السجينات ب "المروكية" أي المغربية• ورغم صغر سنها (24 سنة) وثقل القضية، إلا أن هذه السجينة تعيش ظروفا نفسية هادئة، فهي تأكل بشراهة وتكثر من الصلوات وقراءة القرآن والصوم وتغتسل وتتعطر، لم أر في عينيها ولو دمعة واحدة طيلة المدة التي قضيتها هناك، ولا أدري من أين أتت بكل هذه القوة؟! حاولت فك لغزها، فرفضت الحديث، وكانت تقول فقط ''أنا (أنفوغراف) ولست عشيقة ولا سكرتيرة عاشور''• ولما سألتها لماذا ذهبت إلى المغرب مادامت القضية لا تعنيها؟ ومادامت ليست طرفا في سرقة أموال البنك المذكور؟ ردت "ذهبت لأعمل في مصنع للكراسات يملكه عاشور" ''وكيف تركك أهلك تسافرين رغم صغر سنك؟!'' ترد إن والدتها مغربية، وقد رافقتها إلى هناك لتطمئن عليها! وتضيف: ''قضيتي بين يدي بوتفليقة''•• ولماذا اختار عاشور المغرب؟ هل لأن علاقتنا مع هذا البلد سيئة فكان يظن أن السلطات المغربية لن تسلمه؟ تقول إنها لا تدري، وأنا أعرف أنها تدري الكثير، وقد يكون هذا هو سبب قوتها وتماسكها، وكثيرا ما كانت تردد "يحيا المغرب"، "فيف المروك" ولما سألتها لماذا تقول ذلك، فالمغرب سلمها، قالت إنها أمضت أحد عشر شهرا بسجن سلا وأن ظروف السجن هناك أفضل وحقوق السجين أحسن• وفيما هي أفضل؟ وماهي الحقوق التي يتمتع بها السجين المغربي ولا يتمتع بها الجزائري؟ ترفض الإجابة، ربما لأنها تدري بأنني صحفية، ولا تريد توريط نفسها في الكلام، ربما لهذا اختارها عاشور في المهنة التي كلفها بها في المغرب، وفي اتصالاته السابقة بالبنك الوطني الجزائري ببوزريعة• هذه السجينة هي من مقربات حاجبة القاعة رقم 2 فهي تشاركها الأكل و الملبس و تحميها من ظروف السجن القاسية ففي سجن الحراش قيمتك من قيمة القفة التي تصلك و هي وحدها كفيلة بحمايتك. يتبع ... حلقة الغد : الأناقة و السحاق و مساوئ أخرى